ما إن انتهت الإنتخابات البلدية حتى اندفعت القوى والأحزاب اللبنانية في إجراء استعراض إعلامي لعضلاتها الشعبية، مستندة إلى حسابات وتحليلات مبالغ فيها لمساحة نفوذها على الأرض. فمن الواضح أنّ معظم هذه القوى جعلت من استحقاق عنوانه إنمائي، منصّة اختبار مبكرة للانطلاق إلى الإستحقاق النيابي السياسي بعد أقل من سنة.
ad
صحيحٌ أنّ المبالغات تشكّل في العادة سمة من سمات أساليب الدعاية السياسية التي تنتهجها القوى السياسية اللبنانية، إلّا أنّ منسوب هذه المبالغات كان أعلى مع الإستحقاق البلدي الأخير لأسباب عدة، منها ما هو متعلق بقرب موعد الإستحقاق النيابي، ومنها ما يتعلق بالسعي لخلق صورة أقوى له بعد تبدّل المشهد في لبنان والمنطقة، وعلى أنقاض المرحلة الماضية. أي السعي إلى ملء بعض الفراغ الناجم عن سقوط معادلة وظهور أخرى، ولو من خلال «مناورات» إعلامية وصوتية.
وفي وقت لم تظهر مفاجآت بالمعنى الحقيقي للكلمة على مستوى الساحة المسيحية، خصوصاً بعد التدقيق في تفاصيل الأرقام والنتائج، نجح «الثنائي الشيعي» في اجتياز الإمتحان من خلال إظهاره أنّه لا يزال يُمسك بساحته جيداً. فعدا بعض الخروقات، أظهرت الساحة الشيعية إلتفافاً حول قيادتها على رغم من وجود عدد من المآخذ لديها نتيجة الحرب والواقعين المعيشي والمالي، وهو ما يدفع إلى الإستنتاج بأنّ الساحة الشيعية تحمل قلقاً جدّياً من التحدّيات التي تعترضها والتي تضعها على المستوى الوجودي. وما يضاعف من «مخاوفها الوجودية» هو الخطاب الغرائزي الذي يستخدمه البعض من دون حدّ أدنى من المسؤولية.
تبقى الساحة السنّية، والتي أستخلصت دروسها بلا ضجيج إعلامي صاخب. وأهمية الإشارات الصادرة عن الساحة السنّية أنّها تختزن ما بين رواسب المرحلة الماضية، والتي أدّت إلى فراغ سياسي لا يزال ساري المفعول بسبب تجميد تيار «المستقبل» لعمله السياسي، وما بين المستجدات التي طرأت على المعادلة الجديدة بدءاً من لبنان وصولاً إلى سوريا.
لا شك في أنّ الرئيس سعد الحريري تابع من كثب الإشارات السياسية التي زخرت بها «الصناديق السنّية». وإذا كان صحيحاً أنّ زيارة الحريري لبيروت في ذكرى استشهاد والده لم تنجح في فك أسر تياره، ما جعله يستنكف عن المشاركة في الإنتخابات البلدية، إلّا أنّ الخرق المدوّي لمحمود الجمل في بيروت لا شك أنّه سيزيد من اقتناع الحريري بالمشاركة في الإنتخابات النيابية. فهنالك من يهمس في أذنه بأنّ عدم مشاركته في الانتخابات النيابية المقبلة سيعني إقفال الباب نهائياً وإلى الأبد على أي عودة سياسية له. ويضيف هؤلاء، أنّ الإنتخابات هذه المرّة لن تحتاج إلى كثير من المال، لا بل هنالك من يستذكر «تسونامي» ميشال عون غداة عودته إلى لبنان عام 2005 بعد خروج الجيش السوري. يومها نشأت معادلة لبنانية جديدة إثر خروج الجيش السوري من لبنان، واليوم هنالك معادلات جديدة في لبنان وفي سوريا وفي المنطقة ككل. وبالتالي أظهرت صناديق بيروت بأنّ هنالك بوادر «تسونامي سنّي» يمكن أن يحصل في الإنتخابات المقبلة.
كذلك هنالك بوادر عودة لنشاط تنظيم «داعش» الذي يؤسس لمرحلة دموية في سوريا، وفي الوقت عينه يعمل على إعادة تفعيل نفسه في لبنان. أضف إلى ذلك وجود تحدّيات أساسية أمام الدولة اللبنانية لناحية نزع سلاح المخيمات الفلسطينية، والجميع يدرك الترابط الموجود بين هذه المخيمات وجوانب من الساحة السنّية.
فخلال الأسابيع الماضية اكتشفت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني خلية كبيرة لـ»داعش» كانت وضعت خطة تحرك للقيام بعمليات تفجير تطاول أهدافاً للدولة اللبنانية. وأحد أبرز هذه الأهداف كان مهاجمة السجون، حيث يتواجد معتقلون للتنظيم بهدف إطلاقهم. وهذه الخلية كان أعضاؤها يتوزعون بين الشمال والبقاع الأوسط ومخيم عين الحلوة. صحيحٌ أنّ هذه الخلية كانت تملك التمويل المطلوب للقيام بعمليتها، إلّا أنّ الأخطر ما تمّ اكتشافه من خلال مراسلاتها الداخلية. ففيما كانت تعمل في السابق تحت عنوان «ولاية الشام»، ظهرت الآن وللمرّة الأولى عبارة «ولاية لبنان». وهو ما يعني وجود آلية عمل جديدة خاصة بلبنان، ما يدفع إلى الإستنتاج بوجود برنامج عمل حافل لـ»داعش». مع التذكير بأنّ «داعش» كان قد غاب عن المشهد اللبناني منذ العام 2018، وتحديداً منذ عملية «فجر الجرود».
وهذه العودة إلى لبنان تترافق مع رفع مستوى نشاط هذا التنظيم الإرهابي في سوريا، وهو ما يطرح علامات إستفهام كثيرة عن الجهة الحقيقية التي تريد الإستثمار من خلال إرهاب «داعش». ففي سوريا نفّذ تنظيم «داعش» عمليات عدة في الآونة الأخيرة خصوصاً في حلب.