نبيه البرجي - خاص الأفضل نيوز
هذا قبل ولادة الولايات المتحدة بنحو ثلاثة قرون. رسالة من كريستوف كولومبس إلى كلٍّ من ملك إسبانيا فرديناند وزوجته إيزابيلا: "يا صاحب السمو... انطلاقًا من كونكما مسيحيَّين كاثوليكيَّين، وأميرين يحبّان الإيمان المسيحي المقدّس ويرفعان من شأنه، وعدوَّين لدين محمد، وكل هرطقة ووثنية، فقد قررتما إرسالي، أنا كريستوف كولومبس، إلى بلاد الهند."
وإذ اختلف المؤرخون حول أصل الرجل، أظهر تحقيق أجراه الباحثون على مدى 22 عامًا، بقيادة خبير الطب الشرعي ميغل لورنتي الذي قال: "لدينا الحمض النووي من كولومبس، جزئي للغاية، لكنه كافٍ، وفيه سمات تتوافق مع الأصل اليهودي."
نعلم ما كان لتأثير المناخ الديني في تلك المرحلة، التي سقطت فيها الأندلس، على المشهد السيكولوجي العام في إسبانيا، وانتشار محاكم التفتيش، كما لو أنّ الغاية تدمير أي أثر لمن أقاموا تلك المعمارية الحضارية، والتي وصفها سرفانتس بـ"ليلة البهاء العظيم"!
لكن الرجل الذي رأى في الإسلام ظاهرة وثنية استعان بخريطة الجغرافي العربي الشريف الإدريسي، الذي وضع ــ وبصورة تثير الدهشة ــ أوّل خريطة للعالم. وهذا ما يتبيّن من الإشارات التي وضعها كولومبس على الخريطة لتدله على الطريق إلى مبتغاه. فيما قال مؤرخون آخرون إنّ كولومبس استعان أيضًا بخرائط العالم العربي، منها خرائط علي بن الحسن المسعودي الهُذلي، ابن مدينة سبتة المغربية.
هذه باتت تفاصيل هامشية. ولكن، ألا يتحدث المفكرون الأميركيون المعاصرون باللغة ذاتها في مقارباتهم السلبية للعالم العربي؟ حتى إنّ صمويل هانتنغتون، صاحب نظرية "صدام الحضارات"، أي اليَهْوَمسيحية في مواجهة الكونفوإسلامية، ابتدع تلك النظرية من أجل إخراج الإسلام من ثلاثية التوحيد. كما لاحظت الفيلسوفة الفرنسية صوفي بيسي، وهي يهودية من أصل تونسي، وتعتبر أنّ الغاية من تقديم حركة التاريخ بتلك الطريقة هي غسل الذاكرة الأوروبية كمحاولة عبثية لإزالة أي أثر يتعلق باضطهاد اليهود في القارة العجوز.
بالتأكيد، هناك خلفية أيديولوجية لثقافة الكراهية ضد العرب والمسلمين. لا تتصوروا مدى بشاعة وصف أحد أجداد الرئيس جورج بوش للنبي العربي، واعتباره الإسلام نوعًا من الهرطقة، وإن كان واضحًا أنّ "البيوريتانز" (الطهرانيين) الذين أشرنا إلى تأثيرهم في المقال الأخير، اضطلعوا بدور هائل في تصوير الإسلام بذلك الشكل البعيد كليًّا عن المفهوم الفلسفي للرسالة.
الولايات المتحدة دخلت في وضح النهار إلى الشرق الأوسط، بعدما أسدل الرئيس دوايت أيزنهاور الستار على الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الفرنسية بعد حرب السويس عام 1956، ودون أن ننسى لقاء الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس فرانكلين روزفلت، غداة مؤتمر يالطا، في شباط 1945، في السويس أيضًا، ليؤسس لعلاقات أميركية ـ سعودية لا يزال تأثيرها ماثلًا حتى اليوم.
على مدى تلك العقود لم تحدث أي حرب شعبية أو ما شابه ضد الولايات المتحدة، ودون أن يتمكن "الطوفان الأحمر" ــ كما كان يدعوه الدبلوماسي الأميركي جورج كينان، صاحب نظرية "الاحتواء" ــ من اختراق أي من البلدان العربية باستثناء اليمن الجنوبي، الذي أخذ ولمدة محدودة بهوامش النظرية الماركسية، دون أن تدخل في البنية الفكرية أو الثقافية للمجتمع اليمني.
العلاقات السياسية والاقتصادية بين العرب وأميركا تبدو الآن في ذروتها، حتى إنّ المستشرق الفرنسي دومينيك شوفالييه وصفنا بـ"الكائنات الأميركية". ولقد تكيفنا، إلى حدّ كبير، مع تبنّي الإدارات الأميركية المطلق للسياسات وللحروب الدورية الإسرائيلية. على أنّ أميركا هي القضاء والقدر.
لكن تلك السياسات أخذت منحًى بعيدًا كليًّا عن أي بُعد أخلاقي وإنساني، لتبدو للوهلة الأولى وكأنها خروج على الضوابط الأميركية، ولنكون أمام "الاستراتيجية العمياء". صحيفة هآرتس الليبرالية نددت بنية رئيس الوزراء تحويل إسرائيل إلى "مدينة إسبرطة"، إذ وصفته بـ"الفاشل"، وأضافت أنه "سيجرّنا إلى الهاوية، وإلى حروب لا نهاية لها، لا بد أن تستنزف حتى عظامنا". والكاتب يدرك ما كانت النهاية المدوّية للظاهرة الإسبرطية في مواجهة أثينا التي أعطت أعمالًا فلسفية رائدة، ولا يزال تأثيرها موجودًا في سائر أرجاء الثقافات عبر القرون.
نتنياهو قال أمام مؤتمر للشؤون المالية في القدس: "سنحتاج إلى أن يكون اقتصادنا أوتاركيًّا، أي اقتصادًا مغلقًا يعتمد على الذات، في مواجهة عزلة من الأسواق العالمية." ما لفت العالم الاقتصادي الأميركي بول كروغمان، حائز جائزة نوبل، الذي عبّر عن ذهوله ليضيف: "لقد رأينا مدى البعد الانتحاري في السياسات العسكرية للائتلاف الحاكم، لنفاجأ بذلك الكلام حول السياسات الاقتصادية، والذي يكرّس تدريجيًّا موت الدولة، لكأن الوعد بـ"إسرائيل الكبرى" أقرب ما يكون إلى الوعد بـ"المقبرة الكبرى"."
سَخِر من تصورات نتنياهو حول الحصار الاقتصادي الذي لا يستطيع أي نظام في العالم تحمّله، ليحذر من منطق "الغيتو" الذي لا بد أن يفضي إلى التحلل الكارثي للدولة كما للشعب.
وإذا كان مئات الآلاف يتظاهرون في شوارع تل أبيب ضد نتنياهو، نجد أن ترامب لا يزال عند "تقديسه" للرجل، بعدما كان قد قال منذ أيام: "إنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية فقد تأثيره في الكونغرس"، الذي طالما ظل الركيزة الكبرى ــ منذ قيام الدولة عام 1948 وحتى الآن ــ للسياسات وللحروب الإسرائيلية. كما أن صحيفة "وول ستريت جورنال" تحدثت عن "غضب ترامب المكبوت من نتنياهو". وعلى الأرض، التناغم المطلق بين الرجلين...
كروغمان سأل: "العلاقات المجنونة بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو... إلى أين؟؟"