محمد علّوش - خاصّ الأفضل نيوز
لا شيء يوحي بأنّ التصعيد في المنطقة سيتراجع قريباً، لكن خلف الستار تُدار معركة من نوع آخر، معركة تفاوضية، عنوانها العريض: "تسوية شاملة على الحدود اللبنانية"، وجوهرها الحقيقي لا يقل خطورة عن ميدان الحرب.
الموفد الأميركي، توماس باراك، الذي حمل معه إلى بيروت جذوره اللبنانية ولهجة مرنة، لم يُخفِ حقيقة المهمة، وإن لم يأتِ بمقاربة جديدة كلّياً، بل أعاد تعويم الأفكار القديمة التي رافقت اتفاقيات الهدنة، إنما مطعّمة بشروط تتناسب مع التحوّلات الإقليمية ومتطلّبات واشنطن في لحظة الحرب الإيرانية – الإسرائيلية المفتوحة.
بحسب مصادر سياسية متابعة فإن الطرح الأميركي، الذي بدأ يأخذ شكل "ورقة عمل" رسمية سُلّمت للرؤساء الثلاثة، يعكس تحوّلاً تدريجياً في المقاربة الغربية تجاه لبنان، حيث لم يعد مطلوباً فقط ضبط الجبهة الجنوبية، بل الذهاب إلى ما هو أبعد، من خلال إعادة ترتيب المشهد الأمني اللبناني بالكامل، تحت سقف الدولة، وبضمانات دولية.
في العمق، الورقة الأميركية تحمل معادلة تتضمن استعادة ما تبقّى من أراضٍ لبنانية محتلة، مقابل التزام صريح من الدولة اللبنانية، وربّما من القوى الفاعلة خارجها، بخطوات تدريجية تقود إلى حصر السلاح بيد المؤسّسات الشرعية.
بحسب المصادر، قد تبدو المعادلة مغرية نظرياً. تحرير الأرض هو أمر إيجابي للغاية، خصوصاً في ظلّ انسداد أفق المواجهة العسكرية التقليدية، وواقع العجز الاقتصادي والانهيار المؤسساتي. لكن خلف هذا الإغراء السياسي تكمن شبكة معقّدة من الشروط والضمانات المتبادلة، التي قد تُحوّل الورقة إلى سلاح ضغط داخلي، وربّما إلى فتيل انقسام إضافي إذا لم يُحسن التعامل معها.
ما تطرحه واشنطن، بحسب المعلومات المتداولة، ليس مجرّد توصية دبلوماسية، بل "خريطة طريق" محدّدة المراحل، تبدأ بترسيم الحدود البرّية بشكل نهائي، وإطلاق التزامات واضحة لوقف أي نشاط عسكري خارج إطار الدولة، وتنتهي بإعادة هيكلة الوضع الأمني جنوباً، مع ضمانات بإعادة الإعمار وتقديم المساعدات الدولية.
في المقابل، لا يمكن القفز فوق الموقف الحتمي لـ "حزب الله"، اللاعب الأساسي في معادلة الحدود والسلاح والمواجهة مع إسرائيل. الحزب الذي ينظر بريبة إلى كل الطروحات الأميركية، يدرك أنّ ورقة باراك ليست بريئة، وأنها تحمل في طيّاتها محاولة تطويق مشروعه العسكري، ضمن سياق أوسع لإنهاء مشروع المقاومة ضد إسرائيل في المنطقة، خصوصاً مع احتدام المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب.
ومع ذلك، لا يبدو الحزب في موقع يستطيع فيه تجاهل المتغيّرات، أو إقفال الباب أمام أي نقاش داخلي يُطرح تحت عنوان تحرير الأرض، خصوصاً إذا بات مدعوماً بضمانات دولية حقيقية، ومكاسب اقتصادية ملحّة يحتاجها لبنان للخروج من أزمته العميقة.
في الخلاصة، لبنان أمام مفترق طرق جديد، تُرسم فيه حدود التسويات على وقع المعارك في الإقليم، وتُطرح فيه أوراق تفاوض قد تُشكّل مخرجاً من المأزق الداخلي، أو تنقلب إلى مشروع فتنة إذا استُخدمت كأداة ابتزاز بين القوى السياسية، ولكن يبقى الأكيد أنّ ورقة باراك ليست نهاية المطاف، بل بداية لمسار طويل، تتداخل فيه المصالح الدولية بالتوازنات المحلية، وتُعيد خلط أوراق الصراع بين من يرى في التسوية فرصة، ومن يعتبرها فخاً جديداً يُهدّد بتقويض معادلات القوة التي صمدت لعقود.