نوال أبو حيدر - خاصّ الأفضل نيوز
يعاني لبنانُ منذ عقود من أزمة كهرباء مزمنة، تحوّلت في السنوات الخمس الأخيرة إلى عتمة شبه شاملة، نتيجة الفشل المتراكم في إدارة القطاع وضعف البنية التحتية وغياب السياسات الفعّالة.
وعلى الرغم من محاولات متكررة للخروج من الأزمة، مثل مشروع مقدّمي الخدمات وبواخر الطاقة، لم تنجح أي من هذه المبادرات في تقديم حل مستدام. كذلك بقي مشروع استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر حبراً على ورق، بسبب العراقيل السياسية والتمويلية واللوجستية.
وفي خضم هذا الواقع المتردي، عاد الحديث مجدداً عن مبادرة خارجية، تمثّلت بعرض قبرصي لمدّ كابل بحري لتزويد لبنان بالكهرباء. وفيما يبدو هذا الطرح واعداً على مستوى الشكل، تُطرح تساؤلات مشروعة حول مضمونه وجدواه: هل يشكّل مشروع الربط الكهربائي مع قبرص بداية حل فعلي يُخرج لبنان من أزمته، أم هو مجرّد مبادرة ظرفية قد تنتهي كغيرها بتكبيد الدولة ديوناً إضافية دون نتائج ملموسة؟
كهرباء لبنان بين خيارين: معمل محلي أم كابل من قبرص؟
انطلاقًا من هذه المعطيات، يقول رئيس هيئة تنمية العلاقات الاقتصادية اللبنانية الخليجية إيلي رزق، إنه "لا شك أن التحدي الأكبر في لبنان يكمن في تأمين التيار الكهربائي على مدار الساعة. حيث تتم حالياً دراسة عدة حلول، ومن الجدير بالذكر شكر فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون على زيارته الأخيرة إلى قبرص، حيث تم بحث إمكانية استيراد الكهرباء عبر كابل بحري يربط بين قبرص ولبنان، ولا شك أن هذا الخيار يستحق الدراسة بجدية".
ومن باب التحليل، يتابع: "لكن إذا قمنا بتحليل مبسط للتكلفة والعائد على سعر الكلفة الإنتاجية على المدى القصير والبعيد، نلاحظ أن تكلفة بناء محطة توليد كهرباء مماثلة لمعمل دير عمار تبلغ حوالي 400 مليون دولار، وتنتج نحو 600 ميغاوات من الطاقة. بينما تكلفة الكابل البحري الذي يربط قبرص بلبنان، على مسافة تقارب حوالي ال200 كيلومتر، تصل إلى حوالي 500 مليون دولار، ويستطيع نقل 300 ميغاوات فقط".
ويضيف: "علماً بأن معمل التوليد يتطلب تكاليف تشغيل مستمرة، إلا أن الكابل البحري يحتاج إلى صيانة دورية عالية التكلفة، نظراً لكونه في عرض البحر، وتصل هذه التكاليف إلى ملايين الدولارات".
الطاقة مؤجلة: لا معمل ولا كابل يُنقذ سريعاً
بناءً على ذلك، يرى رزق أنه "فيما يتعلق بالعمر الافتراضي، فإن عمر معمل التوليد يبلغ عادة بين 30 إلى 40 سنة، بينما الكابل البحري يمتلك عمراً أقصى لا يتجاوز 25 سنة، خاصة مع احتمالية ظهور تطورات تكنولوجية قد تجعل الكابل أقل كفاءة أو قد يتطلب استبدالاً أسرع. وعلى المدى القصير، فإن بناء المعمل يتطلب وقتاً طويلاً يشمل مراحل التخطيط، التمويل، والتنفيذ، مما يجعله عملية أكثر تعقيداً وتأخيراً مقارنةً بإمداد الكهرباء عبر الكابل البحري، الذي قد يبدو نظرياً أسرع في التنفيذ".
ووسط هذه المعطيات، يعتبر أن "خيار بناء المحطة لا يوفر حلاً سريعاً لأزمة الكهرباء في لبنان، في حين أن استيراد الكهرباء عبر الكابل البحري من قبرص قد يبدو أسرع من الناحية النظرية، إلا أنه يواجه تحديات جوهرية، منها تصنيع الكابل وتركيبه، إلى جانب ضرورة إبرام اتفاقيات دولية معقدة، وتأمين ضمانات سياسية، بالإضافة إلى تأمين التمويل اللازم"، معتبراً أنه "إذا كان الهدف هو إيجاد حل عاجل وفوري لأزمة الكهرباء، فإن الخيارين الحاليين لا يمثلان حلولاً سريعة وفعالة لهذه الأزمة المتفاقمة".
الطاقة بين الاكتفاء الذاتي والارتهان الخارجي
وفي هذا السياق، يؤكد رزق أنه "على المدى المتوسط، يبدأ بناء محطة التوليد في تحقيق جدواها الاقتصادية والفنية بعد بدء تشغيلها، حيث سيستفيد لبنان من الطاقة الإنتاجية المحلية التي تتميز بتكاليف أقل مقارنةً بتكلفة استيراد الكهرباء من قبرص. هذا الأمر يساهم بشكل ملموس في تخفيض فاتورة الكهرباء وفاتورة الطاقة بشكل عام، ويساعد على تعزيز استقرار شبكة الكهرباء الوطنية".
علاوة على ذلك، يتابع: "فإن إنشاء المحطة يوفر فرص عمل محلية مهمة في مختلف مراحل المشروع، بدءاً من مرحلة البناء، مروراً بعمليات التشغيل والصيانة، وصولاً إلى الإنتاج والتوزيع، مما يعزز النشاط الاقتصادي المحلي".
أما بالنسبة للكابل البحري، فيقول: "إنه سيكون قد دخل حيز التشغيل خلال هذه المرحلة، لكنه يجعل لبنان يعتمد بشكل كبير على مصدر طاقة خارجي، حيث ترتبط تكلفة استيراد الكهرباء بتقلبات أسعار الطاقة العالمية في قبرص، إضافةً إلى أي رسوم أو التزامات مالية مرتبطة بالعلاقات الثنائية بين لبنان وقبرص. وبالتالي، فإن أي توتر سياسي أو خلاف بين البلدين قد يؤدي إلى انقطاع إمدادات الكهرباء، مما يعرض لبنان لمخاطر انقطاعات متكررة وتأثيرات سلبية على استقرار قطاع الكهرباء".
المعامل المحلية: ضمانة للأمن الطاقوي والسيادة
انطلاقًا من الواقع الحالي، يشير رزق إلى أنه "عند إجراء تحليل شامل يأخذ في الاعتبار الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية على المدى الطويل، يتبين أن بناء محطة توليد كهرباء محلية هو الخيار الأكثر جدوى من الناحية الاقتصادية على جميع المستويات. فهذا الخيار يتيح للبنان تحقيق أمن "طاقوي" حقيقي، يشبه مفهوم الأمن الغذائي، حيث يتم التحكم بشكل كامل في تكلفة الإنتاج وعمليات التشغيل. بالإضافة إلى ذلك، يتيح إنشاء المعامل المحلية إمكانية تنويع مصادر الوقود ضمن الاقتصاد الوطني، مما يعزز من مرونة النظام الطاقوي ويعكس تأثيرات إيجابية على الاقتصاد بشكل عام.
في المقابل، يبقى استيراد الكهرباء عبر كابل من قبرص خياراً مكلفاً على المدى البعيد، ويحمل في طياته مخاطر جيوسياسية واقتصادية قد تهدد استقرار إمدادات الطاقة بشكل مستدام. هذه المخاطر قد تؤدي إلى تقلبات غير مرغوبة في الإمدادات، ما يؤثر سلباً على استقرار القطاع الكهربائي وأمن الطاقة في البلاد".
على ضوء ما ذُكر، يوضح رزق في الخلاصة، وبناءً على المعطيات المتوفرة، أن "بناء محطة توليد كهرباء واحدة أو أكثر، قد يصل عددها إلى خمسة معامل إنتاج، يمثل خطوة استراتيجية نحو تحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة في لبنان. كما وأن هذا التوجه يقلل الاعتماد على مصادر الطاقة الخارجية، ويعزز من كفاءة شبكة الكهرباء الوطنية، ويساهم في بناء بنية تحتية طاقوية متينة تلبي احتياجات البلاد على المدى الطويل".