نبيه البرجي- خاصّ الأفضل نيوز
عندما تعلو أصوات في إسرائيل , ومن مختلف القطاعات الثقافية والمهنية والعسكرية , وتقول "حين يهتز العالم هكذا , فهذا يعني أننا , لا الفلسطينيون , أمام اختبار البقاء واللابقاء" ..
غداة اجتياح لبنان , في حزيران عام 1982 , حذّر ناحوم غولدمان , أحد آباء الدولة , ومن مؤسسي ورؤساء المؤتمر الصهيوني العالمي، ومن رؤساء الوكالة اليهودية العالمية , اليهود من التحول من دور الضحية إلى دور الجلاد "لأننا سنجد أنفسنا أمام ظهور أكثر من فوهرر آخر في أميركا , أو أوروبا , ليكون الهولوكوست (المحرقة) هنا على أرض الميعاد لا في أي مكان آخر ..." .
هاله تأثير الهاجس الاسبارطي , وحتى الهاجس التوراتي , في العقل السياسي , والعسكري , الإسرائيلي , ليدعو إلى جعل إسرائيل بمثابة الكنيس , أو الفاتيكان , اليهودي وسط ذلك الأوقيانوس البشري , بذاكرة النار . وكان زئيف جابوتنسكي , وهو أحد المنظرين الجدد للصهيونية , قد رأى، "إن رهاننا الأساسي في قيام دولة يهودية , وعلى أرض صلبة , هو على الكراهية التاريخية , والإيديولوجية الغربية للعرب , وعلى أساس (وتصوروا ...) أن اليهود ابتدعوا الإسلام لتقويض المسيحية . يا لها من مفارقة سريالية حين يعتبر الغربيون أن اليهود هم من كانوا وراء صلب السيد المسيح , ومع ذلك فإن دعمهم كاسح لإسرائيل ضد العرب .
الآن نقاشات واسعة , وصاخبة , داخل المؤسسة اليهودية . هناك من يرى أن بقاء الدولة العبرية يقتضي الاعتماد بشكل أساسي على إيدولوجيا القوة , حتى ولو كانت القوة العمياء , كون ذلك الوسيلة الناجعة لترويع دول ومجتمعات المحيط لأنها تنتظر "اللحظة المقدسة لتحطيم أبوابنا" . وهناك من يرى أن إسرائيل ليست قوية بذاتها , وهنا "كعب أخيل" , أي نقطة الضعف , في وضع الإسرائيليين , إذ من يستطيع أن يضمن التغطية الأميركية المطلقة , والأبدية لهم "إذا ما أخذنا بالاعتبار الانفجارات المجنونة في التاريخ" ؟
ولكن هل من عاقل داخل اللوبي اليهودي , بامتداده الأخطبوطي في مراكز القوة , وفي مراكز القرار , في الولايات المتحدة , يحاول أن يقرأ , أو يستقرئ, إلى أين أودت هيستيريا القوة حتى في الأمبراطوريات الكبرى ؟ دائماً "السقوط عند البوابة الخلفية للتاريخ" , كما قال فيلسوف التاريخ البريطاني آرنولد توينبي , ليقول ايلان بابيه , المؤرخ الإسرائيلي وأستاذ الدراسات الدولية في جامعة اكستير البريطانية , إن غزة "عرّتنا من عظامنا" , بغياب أي رؤية واضحة , أو قابلة للتطبيق , لدى الائتلاف الحاكم الذي لا يدرك , قطعاً , ما يعنيه ترحيل الفلسطينيين من أرضهم . حتماً الزلزال في الشرق الأوسط , في ذروة الاحتجاجات الدولية على المنحى البربري للقيادة الإسرائيلية في مقاربة "تراجيديا القرن" في غزة .
القناة 12 الإسرائيلية بثت تصريحات وصفت بـ "الفظة والصادمة" لوزير التراث عميحاي الياهو قال فيها " إن قطاع غزة سيتحول , بالكامل , إلى منطقة يهودية , ولن نسمح ببقاء الفلسطينيين" . هو ذاته الذي سبق ودعا , خلال جلسة لمجلس الوزراء , إلى إلقاء القنبلة النووية على القطاع , ليلاحظ المعلق ناحوم برنياع أن الترحيل يفضي تلقائياً إلى إلغاء اتفاقية كمب ديفيد مع مصر , واتفاق وادي عربة مع الأردن . تالياً تغيير الشرق الأوسط , ولكن بالصورة المضادة لمشروع بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب .
هنا التساؤل , حتى في الأبحاث التي تصدر عن معهد جافي للدراسات الاستراتيحية , والتابع لجامعة تل أبيب , ما إذا كان من مصلحة إسرائيل عودة مصر , والأردن إلى الخنادق . ملاحظات حول الوضع الضبابي داخل الجيش الإسرائيلي الذي استخدم كمية من القنابل كافية لتغيير المشهد الشرق أوسطي لمائة عام , دون أن يتمكن من استيعاب بضعة آلاف من الرجال الذين يقاتلون في ظروف أكثر بكثير من أن تكون مستحيلة . عامان على ذلك داخل الحلقة المفرغة , ومع ذلك ما يزال في رأس نتنياهو الحرب ضد لبنان , وقد يتورط أيضاً في الحرب ضد تركيا عبر سوريا , خصوصاً بعد التهديد الذي وصل إلى أنقرة بتدمير أي سلاح يبعث به رجب طيب أردوغان إلى سوريا .
المثير في هذا السياق أن هناك في تل أبيب من يسأل إذا ما كان وقوف دونالد ترامب الذي يفتقد الخيال الاستراتيجي , إلى جانب بنيامين نتنياهو الذي بخيال المجانين , هو لمصلحة إسرائيل فعلاً التي بدأت تعاني من التحلل الداخلي ـ التحلل البنيوي ـ أم لمصلحة أميركا التي طالما خذلت حلفاءها عند المفترقات الكبرى ؟
دورية الـ"فورين آفيرز" تسأل ما مصير أميركا حين تكون في حرب (لكأنها الحرب العالمية الثالثة) مع كل العالم , وفي ظل قوة عسكرية أسطورية ، غالباً ما تكون هكذا النهايات الدرامية للأمبراطوريات في هذه الحال , ما حال إسرائيل حين تكون هي أيضاً في حرب مع العالم , بالرغم من كل أشكال الأخطار التي تواجهها , من الداخل , وحيث تتفاعل أكثر فأكثر احتمالات الانفجار , ومن الخارج , حيث الشعور العالمي بأن السكوت على الأهوال التي يواجهها الفلسطينيون "تجعلنا نشعر بالعار حين تكون وجوهنا ملطخة بالدم" , كما تقول التعليقات الأوروبية .
الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطيينية , لا بد أن تتوالى حتى من الحلفاء الأوروبيين , لتهدد الإدارة الأميركية بقطع الرؤوس في القارة العجوز , وغيرها . هل يمكن للعمى السياسيي أن يصل بالأمبراطورية الأميركية إلى هذا الحد من الجنون ؟!