د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
تلقائيًّا، عندما يسمع أحدُنا بكلمة "العبوديّة"، يأخذُنا خيالُنا مباشرةً إلى الزمنِ الماضي، فيبدأ عقلُنا باستحضارِ صورٍ لأشخاصٍ فقراء، وتحديدًا السُّود، مربوطين بالسلاسل، أو مُحتجَزين داخل أقفاصٍ حديديّة، أو يقومون بأشغالٍ شاقّةٍ في المزارع والمصانع والمناجم. لكن مهلاً، ماذا لو كانت أكثر أشكال العبوديّة فاعليّةً في التاريخ، ليست مخفيّة، بل علنيّة، ومُحتفى بها، ومُدافَعًا عنها من قِبَل الأشخاصِ أنفسِهم الذينَ تستعبدُهم؟
أغلال العبوديّة الحديثة
في الحقيقة، إنّ عبقريّة العبوديّة المعاصرة لا تكمنُ في السوط، بل في نموذج W-2 (أي بيان الدخل السنوي). كما أنّها ليست في السلسلة الحديديّة التي يُقيَّد بها الإنسان، انما في دَفعةِ الرهن العقاري. وليست في المُراقب المُسلّح، بل في موظّف الضرائب أو البنك الذي يفرض الحجز.
وحتى لا يقولَ أحدٌ إنّنا نُبالغ، فلنستعرض معًا الآليّة التي وضعها القائمون على النظام الذي يتحكم بحياتنا دون أن ندري:
أنت تتنازل عن 30 إلى 50 بالمئة من جهدك قبل أن ترى النتيجة أصلًا. وإن رفضت، سيأتي رجالٌ مُسلّحون إلى بابك في نهاية المطاف؛ فعمليّة استنزافك هذه شاملةٌ ولا مفرّ منها: تجني المال، فتدفع ضريبة الدخل. تملك عقارًا، فتدفع ضريبة الأملاك. تُنفق المال، فتدفع ضريبة المبيعات TVA، تَدّخر المال، فتخسره عبر ضريبة التضخُّم، تستثمر بنجاح، فتدفع ضريبة الأرباح الرأسماليّة، تؤسّس عملًا تجاريًّا، فتدفع رسوم التراخيص، تُدير عملًا مُربحًا، فتدفع الضريبة على الشركات. تُعطي المال للغير، فتدفع ضريبة الهدايا. تموت وأنت تملك أصولًا، فتُفرَض عليها ضريبة التوريث.
إذًا، كلّ تصرّفٍ اقتصادي يتحوّل إلى فرصةِ تحصيلٍ للنظام الذي يَمتلك ثمرةَ عملك.
أكثر من ذلك، لا يمكنك التخلّي عن تمويل الحروب التي تُعارضها، أو أنظمة المُراقبة التي ترصدُ تحرُّكاتِك أينما ذهبت، أو البيروقراطيّات (الهيئات الحكوميّة أو الإداريّة التي تُصدر القوانين والأنظمة وتتحكّم في تفاصيل حياتك اليوميّة) التي تُنظِّم خياراتك. والأسوأ أنّه يُمكن مُصادَرة "ممتلكاتك" لسدادِ الضرائب غير المدفوعة، حتى لو كنتَ تملكها ملكيّةً كاملة.
على الأقل، كان العبيدُ القُدماء يعلمون أنّهم مُستعبَدون. آنذاك كان العنفُ واضحًا، والإكراهُ جليًّا، والعدوُّ ظاهرًا. أمّا عبيدُ اليوم، فهم مُقتنِعون بأنّهم مُستهلكون.
الفرق بين العبوديّة التقليديّة والعصريّة
عمليًّا، تعتمدُ العبوديّةُ التقليديّةُ التاريخيّةُ على الإكراه. فإذا كنتَ مملوكًا، فأنتَ تعلمُ ذلك من خلالِ سلطةِ السيّد الظاهرة والعنيفة والمباشرة. وبالتالي، فإنّ المُقاومة تعني العقابَ البدني، لكن على الأقل يمكن التعرّف على العدو.
بالمقابل، تعملُ العبوديّةُ في العالم المُتقدِّم عبر ما يمكن أن نُسمّيه "نموذج القُفّاز الأبيض"، وهو مُتقَن، مُريح، ويُروَّج له كمَنفعَة لا كقيد. فالعبيدُ التقليديّون كانوا يُعتبَرون ممتلكاتٍ لسادتهم. أمّا العبيدُ المعاصرون، فيُقال لهم إنّهم زبائن. العبيدُ التقليديّون كانوا يُحكَمون بالخوف، فيما المعاصرون تُفرَض عليهم السيطرةُ من خلالِ الراحة. العبيدُ التقليديّون كانوا يُحرَمون من المعرفة، بينما العبيدُ المعاصرون يُغمَرون بمعلوماتٍ مُنتقاة بعناية تُشكِّل استنتاجاتهم.
ومع ذلك، لم ينجح مالكُ المزرعة في إقناع عبيده بأنّ السلاسلَ مجوهرات. ولم يتظاهر زعيمُ الحرب الكونغولي بأنّ منجم الكوبالت او الذهب هو مركزٌ صحّي للعافية. لكنّنا نحن، تمّ إقناعُنا بأنّ المُراقبةَ أمان، وبأنّ الدَّينَ ازدهار، وبأنّ السيطرةَ الخوارزميّةَ تمكين.
الاستعمار البيولوجي للإنسان
ضَعْ في اعتبارك، أنّه عندما تتمكّن أنظمةُ الذكاء الاصطناعي من التنبّؤ باحتياجاتك قبل أن تشعر بها، وتشكيل خياراتك قبل اتخاذها، فأنت لا تستخدم التكنولوجيا، بل تُحسِّنها. لكنّ القفص التكنولوجي ليس سوى نصف القصّة. فما نحن نشهدُه فعليًّا هو استعمارٌ للبيولوجيا البشريّة نفسها؛ فالعبدُ الحديث لا يُسلِّم جهدَه فحسب — بل يُسلِّم خلاياه للجهات المُطوِّرة لتقنيّات المراقبة التي تعمل بدورِها على دراسةِ وتحليلِ جهازك العصبي (أي الدماغ والأعصاب) بشكلٍ دقيق، من أجل توصيلِه بالتكنولوجيا الرقميّة، ليُصبح جزءًا من شبكةٍ إلكترونيّة. كما يتمّ جمعُ حمضك النووي وتخزينُه، بل وقد يُعرَض في المزادات خلال إجراءات الإفلاس.
لذا، فعندما أعلنت شركة 23andMe إفلاسَها، تُرِكَت 15 مليون عيّنة DNA عُرضةً للدائنين، في الوقت الذي أعلن فيه مسؤولون، مثل رئيس الحكومة الفاشيّة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، بشكلٍ علنيّ عن خُططٍ لإنشاء قواعد بيانات جينيّة، فيما حذّر النائبُ الأميركي جيسون كرو من أسلحةٍ بيولوجيّة تستهدف الحمضَ النوويّ للأفراد.
وفي السياقِ ذاته، فبعدما أعلن وزيرُ الصحّة الأميركي روبرت كينيدي جونيور عن الأجهزة القابلة للارتداء الشاملة (مثل الساعة الذكيّة أو السوار الصحّي أو النظّارات الذكيّة) في غضون أربع سنوات، فإنّ البنية التحتيّة المطلوبة - بغضّ النظر عن الأهداف الصحّيّة المُعلنة - تُمثّل المُكوِّن النهائيّ لنظامِ المراقبة البيولوجيّة الشاملة التي تخلق سجلاتٍ قانونيّة دائمة لشركاتِ التأمين وأصحابِ العمل والمحاكم لاستخدامها ضدّك.
العبوديّة الماليّة
في الواقع، لم يكن مسارُ السيطرة الماليّة محضَ صدفة. فقد تنبّأ غلافُ مجلّة "الإيكونوميست" سنة 1988 بظهور "عملة عالميّة" من رمادِ العملاتِ الوطنيّة بحلول عام 2018، وهو نفس العام الذي تسارع فيه تطوُّرُ العملاتِ المشفّرة والعملاتِ الرقميّة للبنوكِ المركزيّة.
وبحلول عام 2021، احتفت المجلّةُ نفسها بـ"عملات الحكومة" باعتبارها حتميّة، مُستبدِلةً شعار "نثق بالله" بشعار "نثق بالتكنولوجيا". يكشف هذا التطوّر، الذي امتدّ 33 عامًا من التنبّؤ إلى الاحتفال، عن الجدول الزمنيّ المدروس للقضاء على السيادة النقديّة.
وتبعًا لذلك، يجري هذه الأيّام القضاءُ على النقد، آخر بقايا النشاط الاقتصادي المجهول، بشكلٍ منهجي. فما يُسمّونه "الشمول الماليّ" هو في الواقع سجنٌ اقتصاديّ: هدفُه جعلُ كلّ عمليّة شراء بمثابةِ طلبِ إذنٍ من السلطاتِ الخوارزميّة.
وماذا عن العبوديّة التكنولوجيّة؟
تتجاوز التكنولوجيا الحاليّة حدودَ الأجهزة القابلة للارتداء، لتصلَ إلى مجسّاتٍ نانويّةٍ قابلةٍ للحقن، قادرةٍ على عبورِ الحاجزِ الدمويّ الدماغي، ونقلِ النشاط العصبيّ لاسلكيًّا إلى أجهزةٍ خارجيّة، ممّا يسمح بالمُراقبة المباشرة للأفكار ونشاط الدماغ.
من هنا، طوّر باحثون في جامعة كاليفورنيا مجسّاتٍ نانويّة تُدعى NeuroSWARM3، مطليّة بالذهب، وبـ"حجم جسيمٍ فيروسيّ واحد"، يُمكنها أن تسير عبر مجرى الدم، وتعبر الحاجز الدمويّ الدماغي، و"تحوِّل الإشارات المُصاحبة للأفكار إلى إشاراتٍ قابلة للقياس عن بُعد".
الحرب على وعي الإنسان
إنّ أخطرَ ما يجهله البشرُ الذين يعيشون على كوكب الأرض، هو الحرب التي تُشنّ على وعيهم. والكوارث أنّها لا تُعدّ انحرافًا ثقافيًّا أو صدفة، إنّما هي مُوثّقة في براءات الاختراع. ولهذه الغاية، يحتوي مكتبُ براءات الاختراع الأميركيّ على آلافِ التسجيلات التي تُفصّل التلاعبَ التقنيّ بالوعي البشريّ، والتي قدّمتها شركاتٌ، ومقاولو دفاع، وهيئات استخباراتيّة.
علاوةً على ذلك، تُمثّل هذه التسجيلات تطوّرًا مُوثّقًا من الأبحاث السريّة إلى المنتجات الاستهلاكيّة، كخطٍّ تكنولوجيٍّ يمتدّ من المختبرات الحكوميّة إلى غرفة معيشتك. وعليه، يمكن إيجاز أبرز براءات الاختراع الأميركيّة التي تُوثّق الحرب على الوعي الإنسانيّ بالآتي:
1 ــ براءة الاختراع الأميركيّة رقم 6,506,148 B2: الغايةُ منها التحكُّم بالجهاز العصبيّ للإنسان، عبر الحقول الكهرو-مغناطيسيّة المنبعثة من الشاشات. فشاشتُك لا تقتصر على عرض الصور فحسب، بل تمتلك القدرة على تعديل جهازك العصبيّ.
2 ــ براءة الاختراع رقم 5,159,703: تقنيّة تُستخدم لإرسال رسائل صوتيّة لا يسمعها الإنسان بشكلٍ واعٍ، لأنّها تكون بتردّدات أو مستويات منخفضة جدًّا. رغم أنّها غير مسموعة، إلّا أنّها تصل إلى العقل الباطن وتؤثّر فيه، دون أن يُدرِك الشخصُ ذلك.
3 ــ براءة الاختراع الأميركيّة رقم 3,951,134: تتعلّق بنظامٍ يُتيح المراقبة والتعديل عن بُعد للموجات الدماغيّة. أي أنّه يمكن، باستخدام تكنولوجيا معيّنة، قراءة أنشطة دماغ الشخص والتأثير عليها دون الحاجة لأن يرتدي هذا الشخصُ أيَّ جهازٍ على جسده.
حتّى شركة "آبل" تقدّمت بطلبٍ للحصول على براءة اختراعٍ لمراقبة موجات الدماغ عبر سماعات AirPods — تحت مسمّى تحسين الصحّة، ولكنّها في الواقع تُمثّل مراقبة تطبيقيّة للفكر.
في المحصّلة، لا بدّ من طرح السؤال التالي:
هل اقتنعتم بأنّ هذه هي الحريّة؟ لقد رُبِّينا على حبّ أقفاصِنا حُبًّا عميقًا، لدرجة أنّ التشكيكَ فيها يُصبح ضربًا من الجنون. العبقريّة ليست في السياسة، بل في ضمان أنّنا، أيًّا كان الجانب الذي نختاره، لا نزال نُغذّي الآلة التي تستعبدنا.ض