ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
منذ أكثر من سبعة عقود، شكّل الدولار الأميركي العمود الفقري للنظام المالي العالمي. أكثر من ٥٨% من الاحتياطات النقديّة الرسميّة للبنوك المركزية في العالم لا تزال محتفظة بالدولار، فيما يشكّل ما يقارب ٨٨% من المعاملات التجاريّة اليوميّة طرفاً فيها العملة الخضراء، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي. هذه الأرقام تكشف حجم "الاستثنائيّة الأميركيّة" التي جعلت من الورقة الخضراء المرجع الأساسي للأسواق والاقتصادات، غير أنّ المشهد في السنوات الأخيرة بات يطرح تساؤلات جدّية: هل هذه الهيمنة قابلة للاستمرار؟
فالتحديات التي تواجه الولايات المتحدة لم تعد ماليّة داخليّة فقط، رغم أنّ الدين العام الذي تجاوز ٣٤ تريليون دولار يثير قلق الأسواق، بل باتت أيضاً جيوسياسيّة ونقديّة بامتياز، الصين وروسيا والهند وغيرها من القوى الصاعدة شرعت في تخفيف الاعتماد على الدولار، حيث ارتفعت نسبة التبادلات التجارية بين موسكو وبكين باليوان إلى أكثر من ثمانين في المئة في عام 2024 بعد أن لم تكن تتجاوز ربع التعاملات قبل الحرب الأوكرانيّة.
وعلى خط موازٍ، تعمل مجموعة بريكس على وضع أسس عملة بديلة تسعى لأن تكون أداة مقاومة للهيمنة الأميركيّة.
في مقابل ذلك، عاد الذهب ليتصدر المشهد كملاذ أكثر أماناً، إذ لامست أسعاره في عام ٢٠٢٥ حدود ٢٦٠٠ دولار للأونصة، وهو رقم تاريخي يعكس تراجعاً في الثقة بالدولار، كما أنّ البنوك المركزية في دول كبرى مثل الصين والهند وتركيا ضاعفت مشترياتها من المعدن الأصفر، وسجل عام ٢٠٢٣ وحده شراء ما يزيد على ١٠٠٠ طن من الذهب من قبل البنوك المركزية حول العالم، في خطوة فسّرها محللون بأنها محاولة لتقليص الارتباط بالدولار.
وفي خضم هذه التحولات، تتجه الأسواق نحو إعادة تشكيل بنيتها النقديّة. فاليورو رغم استقراره لا يزال عند حدود ٢٠% الاحتياطات العالميّة ولم ينجح في منافسة الدولار جدياً، فيما بدأ اليوان الصيني يشق طريقه بخطوات ثابتة ليصل إلى ٥% من الاحتياطات، وهي نسبة لا تزال متواضعة لكنها تكشف عن مسار صاعد. أما العملات الرقميّة السياديّة، فهي اليوم قيد الاختبار في أكثر من ١١٠ دول، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد يكون فيها الدولار مجرد لاعب أساسي من بين لاعبين آخرين، لا سيد الساحة الأوحد.
هذا التحول يضع النظام المالي العالمي أمام سيناريوهين متوازيين: إما استمرار الهيمنة الأميركية ولكن بوزن نسبي أقل في نظام متعدد الأقطاب، أو انزياح تدريجي نحو نظام جديد تُقتطع فيه حصة من نفوذ الدولار لمصلحة الذهب والعملات البديلة، وهو ما قد يؤدي خلال عقد واحد إلى تراجع حصته في الاحتياطات إلى ما دون ٥٠% لأول مرة منذ الحرب العالميّة الثانية.
يشير الخبير الاقتصادي نديم السبع لـ"الأفضل نيوز" أنّ: "الاستثنائية الأميركيّة باتت في مرحلة الانهيار التدريجي خاصة بعد استعمال الدولار كسلاح بوجه العجز والانهيارات الاقتصادية. إضافة إلى أن بعض الدول باتت تأخذ احتياطاتها بعد الحرب الروسية-الاوكرانية".
كما شدّد السبع أنّ: "الحديث اليوم ليس عن اختفاء الدولار الأميركي من الأسواق الاقتصاديّة العالميّة إنما عن وجود مرادف له قد يكون البيتكون، أو الذهب أو الفضّة ربما، وحتى الساعة الأمور ما زالت ضبابيّة وهذا أخطر من السيناريوهات المطروحة." مضيفًا: "لا يمكننا حصر هذا السيناريو بعامل زمني إلا أن من المستحب على الفرد أن يحصن نفسه أكان في الذهب أو الفضة أو أي عملة يعتبرها ملاذًا آمنًا".
في المحصلة، الاستثنائيّة الأميركيّة لم تعد قدراً ثابتاً كما كانت لعقود، بل باتت موضع اختبار حقيقي أمام ضغط الذهب من جهة، وصعود العملات البديلة من جهة أخرى. وقد لا يكون الأمر انهياراً فورياً للدولار بقدر ما هو مسار طويل يفضي إلى إعادة تشكيل الخريطة النقديّة للعالم على قاعدة التوازن لا الهيمنة المطلقة.