ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أقرّ مجلس النواب اللبناني إصدار ورقتين نقديتين جديدتين من فئتي مليون ليرة و 500 ألف ليرة، لتدخلا حيّز التداول في الأسواق خلال الأسابيع المقبلة.
ورغم أن التبرير الرسمي يتمحور حول "تسهيل المعاملات النقديّة اليوميّة"، فإن الدلالة الأعمق لهذه الخطوة تكمن في أنها مرآة صافية لحجم التضخم وتآكل القدرة الشرائيّة، بل وقد تكون إشارة إضافية إلى دخول لبنان مرحلة أشد خطورة من الانهيار النقدي.
بحسب تقديرات مصرفية، تجاوزت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية في التداول 120 ألف مليار ليرة بنهاية صيف 2025، بعد أن كانت لا تتخطى 7 آلاف مليار قبل الأزمة عام 2019. هذا التضخّم النقدي يترجم مباشرة إلى فقدان العملة الوطنيّة قيمتها:
فالمليون ليرة اليوم لا يوازي أكثر من 11 إلى 12 دولاراً في السوق السوداء.
في هذا السياق، أشار الخبير الاقتصادي محمد فحيلي لـ "الأفضل نيوز" أنّ: "الظروف الحاليّة للمشهد النقدي لا تسمح بطباعة أوراق نقدية من فئة المليون والـ 500 ألف ليرة لأننا نعاني من "الاقتصاد الكاش" فعلى المصرف المركزي أن يعتمد على التخفيف من التداول بالأوراق النقديّة والعودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي وليس العكس. أما بما يخص الثقة، فهناك مشكلة بين مكونات المجتمع اللبناني والمنظومة المصرفيّة إضافة إلى مشكلة الثقة بين مكونات المجتمع اللبناني والمنظومة السياسية الممثلة بالمجلس النيابي، ففئتا المليون والـ 500 ألف ليرة ليست الممر الإلزامي للحل".
الموظف اللبناني الذي يتقاضى راتباً وسطياً يقارب 20 مليون ليرة أي ما يعادل 240 دولار حاليًا سيجد نفسه مضطراً للتعامل بأوراق المليون، في وقت تتجاوز فاتورة السلّة الغذائيّة الشهريّة لعائلة صغيرة الـ15 مليون ليرة. أي أن إدخال الفئات الجديدة لا يرفع القدرة الشرائيّة، بل يُظهر هشاشتها أكثر.
أضاف فحيلي أنّ: " الليرة اللبنانية اليوم باتت "فراطة" بسبب ربط عنق الدولار بعنق الليرة اللبنانية بشكل مباشر، إذ إن المشكلة بدأت من قرار حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة أواخر الحرب الأهليّة بربط عنق الدولار بعنق الليرة اللبنانية على 1507 ليرة لبنانية، كما فعل حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري عام 2023 على 89500 ليرة لبنانية، وهذه القرارات كلفت لبنان والشعب اللبناني الكثير حتى وصلنا إلى دولرة أضعاف ما كانت عليه أواخر الحرب الأهليّة".
ليست هذه السابقة الأولى من نوعها في التاريخ الاقتصادي، لا بل سبق لدول عدة "الهروب إلى الأمام" عبر إصدار فئات نقديّة كبرى مثل زيمبابوي، وصلت الفئات إلى 100 تريليون دولار محلي قبل أن تنهار العملة نهائياً عام 2009. فنزويلا، طبعت أوراق المليون بوليفار عام 2021، لكن التضخم استمر ليتجاوز 1000% سنوياً، ما اضطر الدولة إلى شطب أصفار وإعادة هيكلة العملة. الأرجنتين، كرّرت الطباعة المفرطة، ففقد البيزو أكثر من 80% من قيمته خلال سنتين.
هذه الأمثلة تذكّر بأن إصدار فئات نقدية أكبر ليس علاجاً، بل عادة ما يكون مؤشراً إلى فقدان السيطرة النقديّة، ما لم يُرافق بإصلاحات بنيوية شاملة. أما المشهد المالي في لبنان يتسم بتناقض صارخ: اقتصاد موازٍ بالدولار يضبط إيقاع الأسعار، ويمنح من يتقاضى بالدولار القدرة على الصمود من جهة، أما من الجهة الأخرى كتلة متزايدة من العاملين بالليرة، فقدت رواتبهم أكثر من 95% من قيمتها الفعليّة مقارنة بما قبل 2019.
في ظل هذا الواقع، علّق الخبير الاقتصادي محمد فحيلي قائلًا: "الليرة اللبنانية لن تكون بلا قيمة ولكنها خارج التداول، فالدولار الذي يتداوله لبنان بنسبة تفوق الـ 80% من اقتصاده النقدي ليس العملة الوطنية وهذا ما جعل الخزينة الأميركيّة والإدارة الأميركيّة تتحكم بالمشهد النقدي وغير النقدي اللبناني".
بين ورقة المليون وورقة الـ500 ألف، قد يعتقد البعض أن الدولة تعالج "إشكاليّة السيولة". لكن الأرقام، التجارب الدولية، ومخاوف الخبراء، كلها تشير إلى أن هذه الخطوة ليست سوى ترجمة إضافية لغياب الثقة، واتساع الهوّة بين العملة الوطنيّة والاقتصاد الفعلي. فبتنا أمام مفترق طرق، إما إصلاح اقتصادي شامل يوقف النزيف النقدي، أو تكرار مآسي فنزويلا وزيمبابوي. وبين هذا وذاك، يبقى السؤال: هل ما زال ممكناً إنقاذ الليرة، أم أننا أمام مشهد النهاية؟