يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
عشنا معَ الأخ الكبير والوزير السابق عبد الرحيم مراد مرحلةً طويلةً من العمر، تعلمنا فيها الكثيرَ من الدروس والعِبَرِ ولا سيَّما ما يتعلقُ منها بالفكرِ الناصريِّ الوحدويِّ المقاومِ والتجربة السياسية لهذا الرجلِ في بلدٍ مأزوم ومبتلىً بداء الطائفيةِ والفساد وفي منطقةٍ عربيةٍ مشتعلة بالحروب والأزماتِ، تتجاذبُها أطماعُ قوى الاحتلالِ والاستعمار، وإذا كان اللَّقبُ الأحبُّ إلى قلبِ هذا الرجل هو كنيته ( أبو حسين) فإنَّ اللَّقبَ الذي يُنصفُه سياسيًّا هو ( أبو حُلُمين )، وأقصدُ بهما حُلُمَ الوحدةِ العربيةِ، وحُلُمَ الوحدةِ الوطنية.
وفي الحقيقةِ فقد تعرضَ أبو حسين لكثيرٍ من الظُّلمِ مِمَّن لم يفهمه ولم يُنصفْه ،ولم يعَِ أنَّه عربيٌّ وحدويٌّ ناصريّ، ولا يمكنُ أن يكون غير ذلك، فلامَه اللائمون بسبب علاقاته المتوازنة مع العواصمِ العربية كُلِّها، وخابَ ظنُّ كثيرين في الداخل مِمَّن أرادوا أن يكون طائفيًّا أو مذهبيًّا أو فئويّا، ثمَّ ما لبثوا أن قدموا له كُلَّ احترامٍ وتقديرٍ بعد أن خابت رهاناتُهم التقسيميةُ والتي تلبِّي أطماعَ القوى الخارجية، التي تنطلقُ من مصالحها لا من مصالحنا لتلبِّي رغباتها وتحقِّقَ أهدافَها لا أهدافنا..
وفيما يخصُّ حُلمَ الوحدةِ العربية، فقد آمن أبو حسين بأنَّ الأمَّةَ العربيةَ بما تمتلك من ثرواتٍ بشريةٍ وماديَّةٍ وبما يجمعُ بينها من جوامعَ مشتركةٍ يمكنها أن تقيمَ أمبراطوريةً عظمى وتحققَ التكاملَ الاقتصاديَّ والتنمية، وتتحرر من التبعية للأجنبيّ، وإذا كان حُلمُ الوحدةِ غير قابلٍ للتحقيق فإنَّ التضامنَ العربيَّ مطلوبٌ في هذه الحقبة على الأقل، ولذلك حرصَ على إقامة علاقاتٍ متوازية مع دمشق والرياض وبغداد والقاهرة، وفي ذهنه صدى التاريخ الذي يدعونا إلى اقتفاء آثار الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين، وقد لعبَ دوراً في تقريب وجهاتِ النظر بين العواصم المتنافرة، وحاول بما استطاعَ من إمكاناتٍ حقنَ الدماء فيها.
أما في الداخل فقد دعا إلى بناء جسورِ التلاقي قبل الطائف وبعده، ونبذَ كلَّ أشكال التفرقة والتمزيق بين أبناء الوطن الواحد، وحتى عندما دعا إلى ترتيب البيت الداخليِّ فقد انطلقَ من كون الطائفة السنّية الكريمة هي طائفةُ العروبة والوحدة الوطنية ،والامتداد الطبيعيّ للأمة العربية، وليس من منطلق كونها مذهباً من المذاهب المتناحرة في لبنان..
وقد ترجمَ هذا الإيمان من خلال خدماته التي لم تبقَ حكراً على مذهب معين أو منطقة محددة.، وقبل ذلك من خلال تسمية أولاده ومراكزه ومؤسساته التي يعتبرها بمثابة أولاده، فهو لم يخجل بقناعاته بل جاهر َبها على المنابر والشاشاتِ وفي كلِّ المجالس والاجتماعات ؛لأنه قرأ في كتاب الله قوله سبحانه : ( إنَّ الذينَ فرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعاً لستَ منهم في شيءٍ إنَّما أمرُهم إلى اللهِ ثم ينبئُهم بما كانوا يفعلون) وقرأ أيضاً قوله تعالى: ( واعتصِموا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرّقوا)، ولطالما ردّدَ أمامنا حديثَ رسول اللهِ ( ص) : " ليس منَّا من دعا إلى عصبية..."
فالموروثُ الدينيُّ والإنسانيُّ أولاً والفكرُ الناصريُّ ثانياً صاغا معاً قناعاتِ أبي حسين وحزب الاتحاد ومناضليه قبل المصالح السياسية المشروعة من أجل الوصول إلى الندوة البرلمانية. وقد كان وقوفه إلى جانب المقاومةِ الفلسطينية في بيروت وفي فلسطين والإسلامية في لبنان والمقاومة في العراق على اختلاف مشاربها ينطلقُ من قناعاته الناصرية أولاً ولو لم يعجبِ الفرقاء الفئويين المحدودين أو المعلّبين فكرياً وسياسياً لأن " ما أخذ بالقوة لا يستردُّ بغير القوة" كما قال القائد الخالد جمال عبد الناصر، " ولأن الاستعمارَ لن يحملَ عصاه ويرحلَ بالإقناع والمنطق"، وبعد أن وصل الفئويون إلى طرقٍ مسدودة، وأدركوا أنهم راهنوا رهاناتٍ خاطئةً وخائبةً تخالفُ تعاليمَ الدين ومواثيق الإنسانية، أدركوا أيضاً أن عبد الرحيم مراد رجلٌ كبيرٌ حقاً، وأنه وحزبَه وأنصاره وابنه الحسن الذي ينتهج نهجه في البناء والعطاء والإنماء ويبشر بغدٍ واعدٍ أفضل، لينطبقَ عليهم فعلاً قولُ الشاعر العربي :
( لا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم
فيها فلولٌ من قراعٍ الكتائبِ)،
نعم فلطالما قارعوا كتائبَ الجهلِ والبؤس والحرمان وكتائبَ الفساد و الإقطاع والطائفية والمذهبية ،كما نازلوا الاحتلال في بيروت وأكثر حتى فُلَّت سيوفهم ولم تكلَّ سواعدهم، وظلوا يناضلون من أجل تحقيق حلمين : حلم الوحدة الوطنية وحلم الوحدة العربية.