يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
بعد هزيمةِ مصر في الخامس من حزيران عام 1967، كتب شاعرُ المرأة والغزل الإباحيِّ نزار قباني قصيدته التي دغدغت مشاعر أعوان الاستعمار وبقايا قوى الإقطاع والفساد وكلِّ أعداء القائد الخالد جمال عبد الناصر، والتي قال في مطلعها :
( أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمه
والكتب القديمه
أنعي لكم..
كلامنا المثقوب، كالأحذية القديمه..
ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمه
أنعي لكم.. أنعي لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمه)...
ورغمَ أنَّ الشاعرَ هذا لم يكن في تلك المرحلة يكتب الشعر السياسيَّ أو يلهم أحرارَ الأمة بما يرتقي بها إلى المجد والعلياء، ورغم أنه بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله تعالى، وعدم تقبل الجماهير العربية لموقفه المشين على هامش النكسة قبل ثلاث سنوات، كان قد كتب الكثير من القصائد التي حاول فيها إرضاء الجماهير العربية المفجوعة بالقائد الغائب وإعادة الاعتبار لشعره المذموم، فبالغ في كيل الثناء والمديح في قصائده لعبد الناصر كقوله : (قتلناك يا آخرَ الأنبياء ... )، وقوله : ( من قال الهرم الرابع مات؟ )، وقوله : ( وأصرخ في أرض الخرافات احبلي.. لعل مسيحاً ثانياً سوف يظهرُ... ) إلا أنَّ قصيدته التي نعى من خلالها الفكرَ القوميَّ العربيَّ والنهجَ الوحدويَّ النهضويَّ التحرّري الجامع ظل صداها يتردّد لدى الكثيرين من خصوم عبد الناصر والعروبة والمقاومة حتى يومنا هذا بكلِّ صفاقة وحماقة وجحود ونكران للإيجابيات، وكأنَّ الفكرَ في منظور أهل الجهل والجاهلية والخمول والجمود والتبعية هو الذي يقود إلى الهزائم .
وليست قضيتنا أن نجرّحَ بنزار قباني الذي تحولَ فيما بعد، بعد مقتل زوجته بلقيس في تفجير السفارة العراقية ببيروت عام 1982 إلى شاعر القصيدة الموقف الذي تُنتظر قصائده السياسية وتتردّد على ألسنة الجماهير فتعشقها، ولو كانوا من قبل يصفونه بالخيانة لأنه زاد من وجع الهزيمة وشَهَر سيفَ الشتيمة والشماتة بالأحرار الذين يسعون صادقين إلى النهوض والارتقاء بالأمة صوب سدّة المجد، وإنما قضيتنا أن نسألَ اليومَ : أين هم الناعون؟ وما البدائل التي قدَّموها بعد غياب الفكر القوميِّ العربيِّ وفشل القوميين العرب في تحقيق أهدافهم؟
إنَّ الإنسانَ الإيجابيَّ لا ينتقد فقط ولا يجرّح أو يشهّرُ فحسب ولا يشير إلى الأخطاء وهو يتفرَّج دون أن يكون عاملاً ومناضلاً في دائرة الفعل والتغيير والتطوير، بل إنه يقدّم الحلولَ والبدائل ويسعى إلى تحقيقها بكلِّ ما أوتي من جهد ووقت وإمكانات.. ولم يكن العيب يوماً بالفكر وأهله، وإنما العيبُ ينمو ويكبر في غياب الفكر وهيمنة قوى الجهل والضلال، فالفكر القوميُّ العربيُّ، الذي يدعو إلى التحرّر من الذل و العبودية و الوحدة والعدالة الاجتماعية ومواجهة قوى الاحتلال والاستعمار، ومجابهة الفساد والإقطاع وغير ذلك من مضامين وأهداف، لا يزال الوصفةَ الطبيةَ الناجعة لمداواة جسد الأمة المريض حتى يومنا هذا طالما أنَّ أهل الطبّ والاختصاص لم يكتشفوا دواءَ أكثرَ فعاليةً، ولو أن هذه الأمة رغم ضعفها وإعيائها تستحق احترام شعوب الأرض كلها لأنها لا زالت تنبض بالحياة والمقاومة وترفض الإذعان وتعاند الاحتلال وتواجه أطماع الاستعمار وأعوانه، ولو فشل القوميون العرب في تعميم فكرهم كثقافة وتظهيره كنهج سياسيٍّ جامع بعد رحيل عبد الناصر.
وإنَّ المقاومة، كلَّ مقاومة، في وطننا العربيِّ الكبير أيًّا كان لونها هي بقعة الضوء الوحيدة في ليلنا العربيِّ الحالك السواد، تبشرُ بالخير وتبعثُ الأملَ من جديد، مهما حاولوا شيطنتَها، ووظفوا الإعلامَ المأجورَ لتهشيم صورتها وأنفقوا الأموال لشراء ذمم الذين يضعونها في قفص اتهام ،ويرشقونها بالنبال والكلمات بدلاً من أن يقدسوها لأنها تسمى" مقاومة" فقط وتقف لكي تقارع ما يسمى " احتلال " فقط.
فيا أيها الناعون : ماذا تكتبونَ اليومَ؟ وماذا تقولون؟
أي فكر تحملون؟ وأي مشروع تقدمون؟
إننا اليومَ ننتظر منكم أن تقدموا لنا خيارات بديلة عن فكرنا ومشروعنا، خيارات تعيد اليمنَ سعيداً، وليبيا داعمةً وحاضنةً وراعيةً ، والعراقَ حرًّا عربياً ، وسورية قلباً نابضاً وقلعةً للصمود والتصدي تواجه العدوان بقدرة وثبات، وتعيد السودانَ وطناً واحدا، وتضع حدًّا للتناحر والمجاعة في الصومال، وتخلص لبنان من التخبط والضياع في المتاهات، وتوظف الأموال والطاقات العربية في خدمة التنمية العربية والقضايا والمصالح العربية.. لكي نصفقَ لكم ونهتفَ لكم ونسير خلفَ قيادتكم الحكيمة... فأين أنتم يا رعاكم الله يا أبناءَ أمتنا التي نعتز بكلِّ مكوّناتها؟