إسلام جحا _ خاصّ الأفضل نيوز
"نحن ما منصدِّقهم بس عم نتسلَّى". هذا هو الرَّدُّ الجاهز والمعلَّب الذي يجيب به مَن يحضِّر إلى "سهرة بيتوتيَّة" على حدِّ قول اللُّبنانيِّين، عندما يُفتَحُ النِّقاشُ حول إشكاليّة متابعة المنجِّمين والعرَّافين والمبصِّرين وأصحاب الإلهام الَّذين تبثُّ توقُّعاتُهم مباشرةً على الهواء كلَّ عامٍ في ليلة رأس السَّنة، فالدُّولار في لبنان "طاير والسَّهرة بالبيت أحلى"، وسط عجقة البرامج التِّلفزيوتيَّة، والتَّرفيه والمسابقات، والقصص الدراميَّة التي تُفتَح وتنتهي قبل أن تدقَّ السَّاعة الصَّفر لعامٍ ويومٍ جديدٍ.
كثيرٌ من النَّاس ينتظرون ليلةَ رأس السَّنة للاحتفالِ والسَّهر وممارسةِ الطُّقوس الَّتي ما أنزل الله بها من سُلطانٍ، كما لو كانت تقليدًا سنويًّا مرتقبًا ومقدَّسًا. وأمام الغلاء الفاحش، لا يجد اللُّبنانيُّون بُدًّا من متابعة البرامج التي تعمل القنواتُ على التَّحضير لها وإعدادها قبل أشهرٍ؛ آخذةً بالاعتبار البُعدَ التَّرفيهيَّ واللَّعب على الوتر "العاطفي" للمُشاهد وحجم Rating الذي ستتباهى به في اليوم التَّالي في نشراتها الإخباريَّة، والأرباح المحقَّقة في هذه اللَّيلة، إذ لا ميزانيّةَ عند معظم العائلات للخروج وقضاء السَّهرة التي تدفعُ عليها إدارةُ البرامج الغالي والنَّفيس لإتمامها متسلِّلةً إلى الغرف الدَّافئة في اللَّيالي الباردة، فوزارة السِّياحة اللُّبنانيَّة سمحت للمؤسَّسات السِّياحيَّة بالتّسعير بالدُّولار الأمريكيّ منذ فصل الصَّيف الماضي، الأمرُ الذي انعكس بشكلٍ أكبر على الأسعار في لبنان مع رفع الدُّولار الجمركيّ إلى ١٥ ألف ل.ل.
هذا الواقعُ الاقتصاديُّ المتأزِّم إذًا فرضَ على اللُّبنانيِّين أن يفكِّروا بخططٍ بديلةٍ لقضاء ليلة رأس السَّنة، رغم أنّ الإعلانات للحفلات الموسيقيَّة والمطاعم والسَّهرات "الملوَّنة"؛ غزَت اللَّوحاتِ الإعلانيَّةَ على الطّرقات وأسطح المباني وصفحات التَّواصل الاجتماعيِّ وبدولار سجَّل أمس ٤٣ ألف ل.ل.، إلَّا أنَّ النَّصيبَ الأكبر يبقى ل"ليلى عبداللَّطيف وميشال حايك، ومايك فغالي، وماغي فرح وغيرهم..." من المتنبِّئين والعرَّافين وقارئي الطّالع ومراقبي حركة الكواكب والأبراج، عبر الشَّاشات التي تشتري عقولَ النَّاس، في الوقت الّذي يمارسُ هؤلاء لعبتهم المفضَّلة بالتَّلطّي خلف رداء العلم والحساب والفلك والإلهام لتحديد المستقبل ورسم خطط العام الجديد، فيما لا يعدو الأمر كونه مجرَّد قراءاتٍ سياسيَّةٍ وتحليلاتٍ للواقع، أو تسريباتٍ من هنا وهناك، أو توقّعات عامَّة لا بدَّ من أن تحصلَ في مكان ما منطقيًا.
لن ندخلَ في البُعد الدِّينيّ لهذه "التَّخاريف"، بل في البُعد النفسيّ الذي يحوِّل الإنسان إلى عبدٍ لهذه التُّرَّهات ومنقادٍ لأصحابها على أنَّهم يعلمون الغيبَ، في الوقت الذي يمارس فيه هؤلاء لعبةَ التَّخريف والتَّدجيل بشيءٍ من الاحترافيَّة مقابل آلاف الدُّولارات لظهورهم في تلك اللَّيلة. وستجدُ الكثير من الأغبياء في اليوم التالي يرسمون الخطط انطلاقًا من التَّوقُّعات، فتارةً ستجدهم منفصمين "وهورمون السَّعادة ضارب ضربته"، وطورًا ستجدهم محبطين ومحطّمين دون سببٍ؛ لأنّ (فلانة) قالت: "الكوكب الفلانيّ معاكستي مع أني لا أؤمن بالأبراج"!.
وهكذا تتحوَّل العبوديَّةُ إلى غباءٍ بدماثة سلطة الإعلام الذي يحوِّل ليلةً كباقي اللَّيالي إلى مهرجانٍ من التَّوقُّعات الغريبة العجيبة التي لا يملك أصحابها لأنفسهم لا ضرًا ولا نفعًا.. إنما عقولًا استأجرها الشّيطان وحرّكها كحجارة الشطرنج، والتعويل على الوعي العام الذي يقول: "كش ملك"!.