ريما الغضبان – خاصّ الأفضل نيوز
يجلسُ بعيدًا، ويراقب أطفاله وأحفاده من كثب. الحاج السوري الذي رفض الإفصاح عن اسمه، واحدٌ من مئات السّوريّين والّلبنانيّين الّذين يستخدمون أبناءهم كوسيلةٍ لجمع المال. عند كلّ صباحٍ، يأخذ الحاج الأطفالَ إلى أوّل نقطة "شحادة" في البقاع "مفرق المرج". يتوزّعون بين تنظيف زجاج السّيارات، وبيع المناديل، وبيع الماء والعلكة، ليعودوا آخر اليوم بمبلغٍ معيّن من المال.
هي واحدةٌ من الظّواهر الاجتماعيّة التي تفاقمت، وباتّت تتطلب الحلَّ السريع، فبين السّوريين والّلبنانيّين أصبحت الأعداد كبيرةً، والخطر على هؤلاء الأطفال، وعلى مستقبلهم يكبرُ كلَّ يوم. فمن التّسوّل والعمالة غير المشروعة، يتمخض عن حاضر هؤلاء الأطفال أجيالٌ فاسدة، لا تعرفُ الصواب من الخطأ، كلُ همها الحصول على المال بأيّة وسيلة. هم أطفال الشوارع الذين باتوا مصدرَ إزعاجٍ في بعض الأحيان للمارَّةِ عند كلّ إشارة سير، وكأنّ السّائق يحتاج إلى مرتب شهريٍّ آخر لهم، وإن لم يستجب، فهنا الكارثة الكبرى التي تنهالُ عليه أمطارًا من الدعوات.
أطفالُ الشّوارع: "المفرق أحسن من المدرسة"
في مشهدٍ متكرّر، يبدأ أبناء البقاع نهارهم بعبارة "الله يبعتلك، الله يرزقك، وما معي فراطة"، وكأنه واجبٌ عليهم إعطاء المال عند كلّ نقطة تسوّل، وعلى وجه التحديد "مفرق المرج" و "شتورة". يطلُّ الأطفال يوميًا عند إشارات السّير باكرًا، "كل ما بكرنا أحسن" يقول الطفل محمد "سوري الجنسية" للأفضل نيوز. وعن أهميّة الشارع بالنّسبة لهؤلاء الأولاد يكملُ محمد: "الشارع أفضل من المدرسة؛ لأنها لا تنفعنا ولا نجني منها المال، أما هنا عند "مفرق المرج" أحصل على المال بسهولة".
من ناحية أخرى، تقول الطفلة بشرى "سورية الجنسية" للأفضل نيوز: "أتمنّى الذهاب إلى المدرسة، ولكنّنا نحتاج إلى المال وأمي ترغمني على العمل". وتضيف بشرى: "أمّي تبيع "المحارم" على يمين الشارع، وأنا أبيع الماء على الجانب الآخر منه". وعن ردة فعل الناس، تؤكد الطفلة: "منهم من يعطينا المال دون أخذ الماء، وبعضهم الآخر يبدأ بالشّتم، عندما نقترب من سياراتهم". أما عن "يوميتهم" يقول جاسم لموقعنا (طفلٌ سوري): "أجمع يوميًا نحو ال ٥٠٠ ألف ليرة، وأحيانًا أكثر بحسب سيارة الشخص وكرمه، فمنهم من يدفعُ لنا بالدولار".
الجمعيّات تتأهبُ للمساعدة ولكن...!
جمعية حرمون واحدةٌ من الجمعيّات البقاعيّة التي تُعنى بالمكفوفين، أرادت قلب الصورة، وجعل أصحاب الصّعوبات البصرية يقدّمون المساعدة لهؤلاء الأطفال، حيثُ تُعدُّ لفتةً مميزةً منهم لإثبات قدراتهم، ورسم الابتسامة على وجوه "المتسوّلين". في حديثٍ خاصّ للأفضل نيوز يقول مدير الجمعية ميشال مالك: " نعملُ في الجمعيّة على تقديم العون لهؤلاء الأطفال من أجل مستقبلٍ أفضل، وذلك من خلال تأهيلهم وتعليمهم عاداتٍ جديدةً وبعضَ المهن البسيطة (تصنيع الصابون، هندسة كهربائية) التي تخلقُ لهم فرص عمل جديدة". وعن مساعدة المكفوفين لهم يؤكد مالك: "لطالما آمنتُ بأنَّ كلّ كفيفٍ في هذه الجمعية يستطيع أن يضع بصمته في مكانٍ ما، الكلُّ يعمل على تعليم هؤلاء الأطفال، بالإضافة إلى الحِرف، هناك دروسٌ موسيقيةٌ، كما يساعدونهم على الاستحمام وارتداء ملابس جديدة".
وعن مسؤولية الأهل يُكمل رئيسُ جمعية حرمون: "إنَّ المعركة الأولى مع الأهل، فتوعيتهم ومحاسبتهم هي الأساس، فنحن لا نستطيع أن نفرض عليهم قوانين لحماية أطفالهم، وعدم إرسالهم إلى الشوارع". ويشير السيد ميشال إلى "أنَّ الأهل في معظم الأحيان يعرفون ما الذي يجري ولكن كلّ هدفهم الحصول على المال، فيكون الأولاد هم ضحية بطالة الوالدين وفشلهم غالبًا".
أمّا عن مساعدة المكفوفين لهؤلاء الأطفال، أشاد السيد مالك بهمتهم العالية قائلًا: "شعر المكفوفون بقيمة الخدمات التي تُقدَّم لهم في الجمعية، فقرروا معاملة هؤلاء الأولاد بالمثل، من خلال تعليهم كلَّ ما سبق ذكره بالإضافة إلى خلق صداقاتٍ معهم، وزرع حُبّ المدرسة والحياة في قلوبهم قبل عقولهم".
أطفال الشوارع بعيون المكفوفين
لطالما عاش ذوو الإعاقة الخاصة في لبنان معاناة التنّمر في السّنوات السابقة، ولكن الأمور اختلفت وخصوصًا في البقاع الذي كان يعيش في صورةٍ نمطيةٍ متحجرةٍ. أراد روّاد هذه الجمعية أن يكونوا الفاعل عوضًا عن المفعول به، رغبوا بتغيير نظرة المجتمع. يتحدثُ علي (أستاذ موسيقى، كفيف في جمعية حرمون) لموقعنا: "لقد كنتُ تلميذًا في هذه الجمعية، واليوم أنا قادرٌ على تعليم هؤلاء الأولاد وحثهم على العمل لحياةٍ أفضل". وعن السّبب الذي دفعه إلى المساعدة يروي علي للموقع: " أردت أن أثبت للعالم عن قوتي في الظلام، وأننّي قادرٌ على تغيير حياة الآخرين وتحفيزهم، ورسالتي للمجتمع أختصرها ببضع كلماتٍ "الإعاقة نحنا منخليها شي كبير، ونحنا منخليها شي صغير".
في السّياق عينه يوضح عبد الرحيم: "إننا نتعامل معهم بطرقٍ مختلفة تجعلهم يحبوننا ويتشوقون للعمل، ويتعلمون كل ما هو جديد". ولدى سؤالنا إذا ما كانت إعاقته البصرية تؤثر على مساعدته للأطفال يضيف عبد الرحيم: "أنا فيني علمهم يخلقوا من الضعف قوة، وحتى لو كنت كفيف أو ابن شارع فيني لاقي حياة أحسن".
نسبةُ الأطفال المتسولين إلى ارتفاع... فأين الدّولة؟
تحت عنوان "الطفولة المحرومة"، كشف تقريرٌ جديدٌ لمنظمة اليونيسف بياناتٍ أظهرت ارتفاع نسبة الأطفال العاملين وأطفال الشوارع. كما أشار التقريرُ إلى عمق الأذى اللّاحق بحياة الأطفال في لبنان جراء الأزمات الهائلة التي تتخبطُ بها البلاد. وبحسب أرقام المنظمة التي وثّقها تقييمٌ أجريَ في حزيران ٢٠٢٢، هناك ٨٤٪ من الأسر الّلبنانيّة التي لا تملك ما يكفي من المال لتغطية ضرورات الحياة، كما خفّضت ٣٨٪ من العائلات نفقات التعليم مقارنةً بنسبة ٢٦٪ في نيسان ٢٠٢١.
ويضيف التقرير: إنَّ ٢٣٪ من الأطفال ذهبوا إلى فراشهم، خلال العام الماضي وهم جائعون، الأمر الذي دفع الأهالي إلى إرسال أولادهم إلى العمل أو التسول من أجل الحصول على قوت يومهم، إلا أن هذا لا يخفّفُ من لوم الأهل، فالأطفال هم مسؤوليتهم، وليس العكس.
وعن مسؤولية الدولة تقول المحامية دينا الغضبان للأفضل نيوز: "المشكلة ليست بالقوانين، بل في كونها لا تُطبق، فنحنُ نعيشُ في بلدٍ يتخبّط بالصراعات "وكل مين ايدو الو". كما وتشدّد الغضبان "على مسؤولية البلديات التي لا تُحرك ساكنًا، من خلال سماحها للأطفال بالتّسوّل عند إشارات السيّر، الأمر الذي يُشكل خطرًا على حياتهم وحياة الآخرين". وفي المضمون عينه تؤكد: "إنّ قانون العمل الّلبنانيّ يمنع عمالة الأطفال، إذ أصدرت وزارة العمل الّلبنانيّة قرارًا عام ١٩٩٩، يقضي بعدم استخدام الأطفال الذين يقلّ سنّهم عن ١٧ في الأعمال الخطرة، ليُعدَّل لاحقًا سنُّ العمالة لل ١٢ عامًا كحدٍّ أدنى".
هو ليس المشهد الأوّل الذي تغيبُ عنه الدّولة ولكنه الأهم، فهو يهددّ مستقبل جيلٍ لن يزرع فى المجتمع سوى ما تعلّمه في الشوارع، ليحصُد عناصر غير فعالة، وربما "خريجة حبوس". فهل ستدقُّ الجهات المختصة ناقوسَ الخطر لإنقاذهم قبل فوات الآوان؟.