د. علي ناصر ناصر-خاصّ الأفضل نيوز
تمكن حزب العمال البريطاني من استلام السلطة في بريطانيا، بعد أن فاز في الانتخابات التشريعية التي جرت في 4 تموز/يوليو 2024، وبلغت نسبة المشاركة 60 % من إجمالي عدد الناخبين، وحصل على 412 مقعداً من أصل 650. وحقق فوزاً كبيراً على حزب المحافظين، الذي تلقى هزيمة تاريخية لم يتعرض لها منذ تأسيسه عام 1834. ولكن في المقابل لم يتمكن حزب العمال من أن يحصد أكثر من 34% من أصوات الناخبين ليمثل أكثر من 60% من مجلس العموم البريطاني، وحصل حزب المحافظين على 121 مقعدًا بنسبة تمثيل لا تتجاوز 24% من نسبة المقترعين البريطانيين، بينما حصل حزب الإصلاح اليميني المتطرف على 14% من أصوات الناخبين مما جعله ثالث أكبر حزب بعد العمال والمحافظين ولكنه حصل فقط على 5 مقاعد. وحصل الديمقراطيون الليبراليون على 72 مقعداً ولكن بلغت حصتهم التمثيلية ما يزيد قليلاً على 12% من أصوات الناخبين وقد حلوا ثالثاً من حيث عدد النواب وحصلوا على المركز الرابع من حيث القوة التمثيلية، ويعود ذلك إلى طبيعة النظام الانتخابي البريطاني الذي يقسم بريطانيا إلى 650 دائرة انتخابية يتفاوت فيما بينها عدد الناخبين ويفوز بالدائرة المرشح الذي يحصل على العدد الأكبر من الأصوات في الدورة الأولى وليس الأغلبية المطلقة.
تعد هذه الانتخابات الأولى بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي حصلت فعلياً عام 2020 بعد الاستفتاء الذي حصل عام 2016 التي قاربت نتيجتها 52% لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. تشير الانتخابات في الديمقراطيات الغربية إلى أن السياسات الخارجية لا تتأثر بالنتائج بشكل جدي وجذري إنما تخضع هذه السياسات لضوابط وقوننة تتمايز عن سابقتها، ولكن يبحث المواطن الغربي عن العوامل الداخلية التي تلعب دوراً مركزياً في خياره الانتخابي وهي ما تبدو عليه الانتخابات التشريعية البريطانية.
الداخل البريطاني
في النتائج الأولى للانتخابات البرلمانية البريطانية استعاد حزب العمال البريطاني سيطرته على الحياة السياسية في إسكتلندا بعد سقوط الحزب الوطني الإسكتلندي وخسارته 39 مقعداّ واحتفاظه فقط بـ 9 مقاعد وهو الحزب المؤيد لاستقلال إسكتلندا عن بريطانيا، وفاز حزب العمال في 27 مقعداَ من أصل 32 في ويلز وهذا يؤشر إلى أن فكرة تفكيك بريطانيا قد تلاشت وأن السياسة بصفتها الفوضوية التي سيطرت على الحياة السياسية البريطانية منذ 14 عاماً والتي سيطر فيها المحافظون على الحكم قد انتهت في بريطانيا مع خسارة الدور السياسي لأشخاص أمثال "بوريس جونسون" ورفاقه في حزب المحافظين الذين تحكم اتجاهاتهم السياسية الرغبات المحدودة والضيقة على حساب الاتجهات العامة والأفق المنفتح.
تشير نتائج الانتخابات التشريعية بداية تلاشي الثنائية الحزبية التي سيطرت على الحياة السياسية البريطانية حيث حصل حزب المحافظين وحزب العمال مع بعضهما على ما يقارب 58% من نسبة المقترعين وهي نسبة متدنية مقارنة مع السنوات السابقة. وحصل حزب الإصلاح اليميني المتطرف على 14% من أصوات الناخبين وهذه النتيجة كانت على حساب المحافظين، وهو يتقدم ليقترب من حزب المحافظين بالنسبة لقوة التمثيل الشعبي.
لم يقدم حزب العمال البريطاني وعوداً انتخابية محددة لقطاعات معينة بل تحدث عن المشاكل التي تعاني منها الدولة بشكل عام ركز على معالجة العجز في الخدمات الصحية وتحسينها، إضافة إلى زيادة النشاط الاقتصادي بعد الخروج من "بريكست" وانتهاء جائحة كورونا، كذلك وعد الحزب بمعالجة أزمة المهاجرين وتحسين التعليم وتطويره، ومكافحة الجريمة التي ارتفعت بشكل كبير عام 2023.
الاتحاد الأوروبي
تعيش بريطانيا حالة اقتصادية وسياسية واجتماعية شديدة الصعوبة ومعقدة يعود جزء كبير منها إلى العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية الموحدة، فبريطانيا التي تضم إنكلترا، إسكتلندا، ويلز وإيرلندا الشمالية، تعرضت إلى صدمة اجتماعية وسياسية واقتصادية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي جعلت عدم اليقين هو السائد على صعيد القواعد التجارية التي ستحكم علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي وكيفية تشكيل الاستثمارات والتوظيفات، بالإضافة إلى غلاء المعيشة الذي زادت بفعل الخروج من الاتحاد الأوروبي وحالة الركود الاقتصادي التي أصابت الاقتصاد البريطاني وانخفاض الناتج المحلي لعام 2023. وانعكس ذلك على الأحوال المعيشية للمواطن البريطاني وترجم ذلك من خلال إضرابات عمالية غير مسبوقة ومطالب بتحسين الرواتب.
لم يتناول حزب العمال في حملته الانتخابية المسائل المتعلقة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي ضمن تكتيك انتخابي ولكن عندما يستلم الحكم عليه العمل على إيجاد حلول لتلك التداعيات ورغم قول رئيس حزب العمال كير ستارمر "إنه لن يدعو إلى استفتاء عام من أجل العودة إلى الاتحاد الأوروبي"، ومع ذلك فخيارته قد تكون محدودة خاصة أن استطلاعات الرأي داخل بريطانيا تؤيد العودة إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 57% والبريطانيون نادمون على "بركسيت".
الصراع مع روسيا والصين والتبعية للولايات المتحدة
يعتبر حزب العمال البريطاني "حزب الناتو" وتوجهاته الفعلية "أطلسية" ويؤمن ببناء توجه أوروبي معادٍ لروسيا ودفعها بعيداً عن أوروبا وبناء جدران ثقافية واجتماعية وسياسية معها ويتماهى بذلك مع سياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن ولن يخرج عن هذه السياسة حتى لو فاز الجمهوري دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية لا بل يعمل حزب العمال على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2.5% من الناتج المحلي تماشياً مع مطالب الرئيس ترامب لأوروبا من أجل زيادة مساهمتها في الدفاع عن القارة الأوروبية. و"ستارمر" نفسه معاد لروسيا، وقد التقى الرئيس الأوكراني "زيلنسكي" أكثر من مرة وعبر بشكل مستمر عن دعمه له.
تعتبر السياسية البريطانية اتجاه الصين ثابتة سواء بالنسبة لحزب العمال أو المحافظين حيث التعامل مع الصين سيقتصر على المسائل التجارية ذات الطبيعة الاستهلاكية بينما ستمتنع عن التعامل معها في المسائل التقنية والاتصالات التي تعتبر من أسس قوة الدولة الحديثة وتحاكي بريطانيا في ذلك السياسة الأمريكية اتجاه الصين.
القضية الفلسطينية
بالنسبة للقضية الفلسطينية فقد فاز 5 مرشحين مستقلين مسلمين يؤيدون القضية الفلسطينية وانتزعوا مقاعدهم من حزب المحافظين وحزب العمال الذي خسر نسبه متقدمة من الناخبين المسلمين على خلفية الموقف من الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة. لكن تبقى بريطانيا تتبع السياسية الأمريكية في الصراع العربي -الإسرائيلي والاعتراف بالدولة الفلسطينية التي اعتبرها ستارمر "أنها حق لا يمكن إنكاره للفلسطينيين" لا يخرج عن السياق "الكلامي" العام الذي تطلقه الإدارة الأمريكية. وستارمر نفسه نقل حزب العمال من قيادة "جيرمي كوربن" المؤيد للقضية الفلسطينية إلى قيادة جديدة تحت إمرته منذ عام 2020 وألقى خطاباً أمام مجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب العمال البريطاني حيث خصص معظم خطابه لمعاداة السامية التي اتهم "كوربن" بترويجها. إضافة إلى ذلك إن "ستارمر" متزوج من "فيكتوريا ألكسندرا" وهي سيدة يهودية محافظة تنتمي إلى الحريديم ولديها عائلة تعيش في إسرائيل مع أن "ستارمر" نفسه ملحد.
استنتاج
ظهر قانون الانتخاب البريطاني غير مطابق مع الإرادة الشعبية ومجحفًا بحق الأحزاب الصغيرة، والمفارقة أن نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب العمال هي أقل من النسبة التي حصل عليها عام 2019 ولكنه حصد 211 نائباً إضافياً، وتعرض حزب المحافظين إلى خسارة تاريخية حيث فقد 252 مقعداً من حصته من بينهم قيادات تاريخية وأصبح حزباً إنكليزياً فقط بعد أن خسر تمثيله في ويلز وإسكتلندا وهو في الأساس غير ممثل في إيرلندا الشمالية.
النتائج النهائية لا تطمئن حزب العمال والتقدم الذي حصل عليه مرتبط بطبيعة النظام الانتخابي البريطاني وليس باتجاه شعبي جارف وهذا ما يزيد من مسؤوليته على تثبيت الفوز والعمل على تراكم الإنجازات وفي المقابل يجعل حزب المحافظين أكثر نشاطاً وحافزية ليستعيد المقاعد التي خسرها.