د.علي ناصر - خاصّ الأفضل نيوز
تفرض الاستمرارية السياسية للنظم الحاكمة والأحزاب والكيانات السياسية في خلق القدرة على التكيف السياسي مع المتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية والاستجابة للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تنبثق بفعل الأحداث والتطورات. لا شيء يهز المجتمع الدولي ويجعله مضطرباً وقلقاً، مثل تغيير نظام قائم، أوتعديل في الحدود السياسية، أو تغيير في الجغرافيا السياسية للدول، في الحقيقة جميعها تشكل وتفرض تغييراً جيوبولوتيكياً على طبيعة المجتمع الدولي الذي يحذّر ويخشى بعضه البعض، فهذه التغييرات ستقود حتماً إلى تغيير جوهري في التحالفات والاستراتيجيات القائمة.
في الواقع، تحتاج الدول والكيانات السياسية إلى إجراءات وتغييرات في الاستراتيجية الكبرى عند التحولات العظمى التى تطال العالم وتحدث في واقع العلاقات الدولية، وتشمل هذه التحولات، نهاية وإزالة الدولة من الوجود، وتغيير النظام السياسي واستبداله بآخر بفعل ثورة شعبية أو عمل عسكري، واتحاد دولتين أو أكثر، وتشمل أيضاً تفكك الدولة وتحويلها إلى كيانات متعددة، أو أن تفقد الدولة جزء من إقليمها بفعل حرب أو انشقاق جزء منها، بالإضافة إلى ذلك هناك عوامل داخلية تدفع الدولة إلى الانتقال السياسي من جهة إلى أخرى.
في المحصلة، تحتوي تلك التحولات والتغييرات على خصائص سياسية مقلقة للبيئة الدولية، ويسود عدم اليقين طبيعة العلاقات الدولية، فتبدأ الدول باستكشاف التغيير القائم وملائمته لسياساتها القائمة اتجاه تلك الدولة أو المنطقة. والاستكشاف هنا ليس عملية بسيطة، بل يحمل مضامين سياسية وأمنية وعسكرية تفترض الصدام والمواجهة أحياناً أو التكييف والتعاطي بواقعية مع هذا المتغير الدولي.
التكيف المرن واستراتيجية البقاء
تهدف استراتيجية التكيف المرن إلى التعامل مع المتغيرات والتحديات على الساحة الدولية بواقعية، والاستفادة من الأحداث القائمة، واحتواء المتغيرات وتداعياتها، وتقدير حجم القوة لمختلف الأطراف، بالإضافة إلى الموقع الحقيقي في المعادلة الدولية، ويتم ذلك عبر خلق أدوات مبتكرة ومرنة ذات دينامية عالية تبتعد عن الأوهام السياسية، والاحتكام إلى الحقائق السياسية القائمة بالفعل، وتقييم القوة الاقتصادية والعسكرية وغيرها من العوامل التي تشكل مصدر قوة الدولة، وكل ذلك من أجل الحفاظ على الوجود السياسي المستدام ومواجهة المتغيرات واحتوائها. تستخدم هذه الاستراتيجية عند المتغيرات والأزمات الكبرى التي تصيب المجتمع الدولي، وتشمل بطبيعتها الأمراض التي تنتشر على الصعيد العالمي، الأزمات الاقتصادية العالمية، صعود دول جديدة، تغيير الأنظمة القائمة، وهناك بعض الاتفاقيات الدولية التي تترك أثراً على مجمل العلاقات الدولية، حيث تفترض من أعضاء المجتمع الدولي المبادرة لأخذ خطوات مقابلة.
يقود تغيير النظام القائم إلى تداعيات على مختلف دول الإقليم تفترض التعامل معه وفق الحقائق الجغرافية الثابتة، والاتجاهات السياسية والاقتصادية للنظام الجديد، والتخلي عن الانحياز المطلق، والاستعداد للانفتاح والحوار السياسي بعد أن يحسم النظام الجديد اتجاهاته السياسية.
بناء التحالفات الجديدة وضرورة الانفتاح السياسي
يشمل بناء التحالفات الجديدة القدرة على تخطي الاعتبارات السابقة التي كانت قائمة بين دول الإقليم، فالمتغيرات تدفع نحو تحالفات جديدة تشكل متغيرات تابعة بالضرورة، وسينتج عنها إعادة تشكيل القوة. والتحالفات هنا تفترض الدبلوماسية المرنة حيث تتمكن من تحديد المصالح المشتركة، والعمل على تأطيرها بسلسلة من الإجراءات تشمل إقامة تعاون متعدد الأبعاد يشمل الثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا وغيرها التي تساهم في تقوية التحالف الجديد. وتتخطى التحالفات الجديدة الإقليم لتصل إلى القوى الدولية التي تتفاعل مع الحدث القائم.
والتأثير المباشر يطال بالدرجة الأولى المحيط الإقليمي للمتغير السياسي ويفرض إعادة صياغة العلاقات الإقليمية ببعضها البعض على مختلف الصعد والمرتكزات التي فرضتها التصنيفات التي ظهرت في الإقليم، فإعادة رسم التحالفات يفترض إعادة بناء القوة التي فقدت، وتعزيز القوة التي ظهرت.
الدفع نحو الوحدة الداخلية وتقوية بنية الدولة
عندما تحصل المتغيرات الكبرى تفرض تداعيات محتملة على النظم السياسية والدول القائمة التي تتشابه من حيث البنية والمكونات الاجتماعية، وتتصاعد التوقعات والأسئلة ومدى انعكاس الاتجاهات السياسية والسلوكية للنظام الجديد على تلك الدول. في الحقيقة أن هذه الدول والمجتمعات، وخاصة تلك المتعددة، لا يوجد لديها خيارات كثيرة تلجأ إليها سوى تحديث آلياتها السياسية، وتأطير بنية الدولة وتقوية وحدتها الداخلية عبر الدفع نحو إجراءات تُطمئِن كافة المكونات الاجتماعية، التي بدورها معنية بالمبادرة نحو المكونات الأخرى وفق الأولوية الوطنية.
المحصلة
التكيف المرن لا ينبثق بفعل أحداث مفاجئة فقط، ولكن الاستعداد له وتوقع التغيير، وتوقع الأحداث والتعامل معها وفق علم الاحتمالات والاستباقية التي تأتي من المتابعة الدقيقة للمتغيرات وعدم إهمالها هي مؤشرات ناشطة تسهل عملية التكيف. هناك دول تُفاجأ بالحدث فيربكها، وأخرى تصنعه، وثالثة تستعد له وتكون قادرة على التكيف معه. إن الاستهانة والتقليل بما حدث سينعكس ضعفا في تقدير الموقف، والمكابرة ستؤدي إلى خسائر استراتيجية بدلاً من الإقرار بما حدث ومحاولة احتوائه. لقد أدى سقوط الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية إلى تغيير وجهة العالم، بينما كانت نتيجة سقوط النظام الإيراني عام 1979 إلى إعادة صياغة التحالفات في الشرق الأوسط ووسط آسيا، وأدى مؤخراً سقوط النظام العراقي عام 2003 إلى تغييرات في بنية القوة في المنطقة، وكذلك أدى سقوط النظام الليبي إلى تداعيات سياسية أثرت على مجمل الأمن القومي للدول المحيطة بها وفي مقدمتها مصر. وتبقى القدرة على التكيف مرتبطة بطبيعة الدولة نفسها من حيث الحيوية والنشاط والليونة في بنيتها السياسية.