خليل حرب - خاص الأفضل نيوز
لم أتمكن من البكاء إلى الآن.
أستعيد المرات التي التقينا فيها، وكنت في كل مرة أخرج مندهشا بك. لي صورة يتيمة معك، أخشى النظر إليها. لم أنشرها وقتها، ولم افعل سوى بعدها ب7 سنين، إذ خشيت على سلامتك، وبقيت أخشى عليك من الخذلان، كلما ناديت "ياااااا فلسطين"، ويااااا سوريا" و"ياااااا عراق" و"يااااايمن"، ثم أخاف أكثر كلما كانت غزة تنادي "واااامعتصماه"، فبالكاد تجد لها نصيرا، غيرك.
إنه زمن المتصهينين. السفهاء الذين يرون في ارتقائك فرحة لهم، ومناسبة لتقاسم الحلوى المغمسة بالغدر، مع "إبن ملجم" العصر وهو يقتلك في الكوفة.
الآن فقط بتُّ أدرك لماذا هذه الأمة ظلت "تتمعمل" في وحول الدرك الأسفل، في السياسة والأخلاق والفداء. لم أسمع عواصم العرب تنعيك سوى تلك التي ناصرتها في بغداد ودمشق وصنعاء وغزة وجنين.. وفي بيروت التي قاتلت من أجل شرفها وقرى بلادنا الواحدة من البصرة الى دير الزور وبنت جبيل وبئر السبع، فيما الآخرون متلهون بالدعوة إلى الصلح مهما عملت سيوف الصهاينة برقاب العرب والمسلمين والمسيحيين والسنة والشيعة وووو...
لكنك زرعت في صحراء هذه الأمة شيئا، ما عهدته منذ عقود. وأراها تثمر وأسمع الآن أصواتا عربية مقهورة تنعيك، من ملايين الناس الطيبين الذين يرون "البوصلة" الصح، والقضية الصح، والعدو المفضوح بدمنا منذ 100 عام وبعضنا لا يريد أن يراه.
أبله البيت الأبيض يعتبرها "عدالة" لأن الكلب المسعور الذي أفلتوه في أرضنا يمعن في ذبح أولادنا وأحبتنا وإخوتنا. "الأصيل" في الميدان، بدلا من عصابات التكفير المتأسلمة التي أرادت "تحرير الأندلس" بدلا من القدس، وروما بدلا من حيفا. كل من قاتل التكفيريين، نقموا عليه، وقتلوه أو لاحقوه. رايات الإرهاب كان يجب أن ترفرف عالية في بلادنا، خدمة للاستعمار وغاياته.
في ال2000، كنت تجلس متواضعا بشكل لم أصدقه، وأنت على وشك أن تشهد الملامح الأولى لأول تقهقر عسكري في تاريخ الصراع مع العدو من أرضنا بلا قيد أو شرط.
ثم تلام لأنك جربت مناصرة أهل الأرض في فلسطين؟
ولأنك لم تتنازل عن تلالنا المسلوبة في شبعا؟ ولأنك جربت الذود عن عاصمتنا وروابينا.
كانوا يريدون لك "كامب ديفيد" جديدة، لتسقط عنهم الشبهة. كم بذلوا من مال ليجعلوك تبدو ضئيلا مثلهم؟ كم جربوا أفكار الفتنة والضلال للإمعان في تشتيتنا وحبسنا بأطر الطوائف والمذاهب، لكنك أبيت إلا أن ترتقي على طريق الفداء دفاعا عن غزة.
سيظل كثيرون ممتنين لأنهم عايشوا عصرك، ويكفيك فخرا أنك أنزلت بهم بعضا من بأسك، صهاينة شارون وبيريز ونتيناهو، وصهاينة التكفيريين وصهاينة "روما العصر"، وإن المؤمنين بك سخوا بأبنائهم تحت قيادتك نصرة للمقهورين، وسيظلون.
أي مفارقة هذه التي جمعتك يوم رحيلك بعبد الناصر. رجلان مختلفان، في زمانين مختلفين، وفي جبهات وصراعات مختلفة، لكن فلسطين كانت شغلهما الشاغل. ولا تزال ذاكرتي تحمل صورة مشوشة عندما كنت طفلا وأنا أشاهد محبين للزعيم العربي الراحل، يصرخون ويبكونك في ذلك اليوم الأسود من العام 1970 في أحد شوارع بيروت. بالأمس يا "سيد"، شاهدتهم مجددًا. إنها الوجوه ذاتها وإن اختلفت، ملتاعة من "الحرقة". إنها القلوب ذاتها مهما تألمت.
وأفرح أيضا. وأتذكر ضحكتك مرة لما اقترحت عليك ما لا يقال هنا. وأدرك تمامًا كيف بإمكانك أن تكون متقدًا كشهب، ومقترحا بذكاء، ومستمعا بتمعن وخجولا بأحيان كثيرة، لكنك حازم بمبادئك يا أعقلنا، يا أشجعنا، ويا أكبرنا، ما مسَّكَ الموت، فمن مثلك، هو الذي يقهره.