نبيه البرجي- خاصّ الأفضل نيوز
... ولكن متى توقف تقطيع أوصالنا منذ اتفاقية سايكس ـ بيكو وحتى الآن ؟
لا نتصور أننا نبالغ حين نقول أن من سوريا يعاد تركيب الخرائط . هذا حين يحذر المبعوث الدولي غير بيدرسون من انهيارها .
بعيداً عن ضجيج بعض الشاشات التي حاولت , بلغة ثأرية , الإيحاء بالانتقال من جمهورية كاليغولا إلى جمهورية أفلاطون .
لعلنا نسينا , أو تناسينا , يثقافة الضوضاء , وهي أحد أسباب بلائنا , تلك الأيدي التي اغتسلت بدمائنا سواء في السفوح الشرقية أو في شوارع المدن ، إذ يبدو جلياً أن المنطقة أمام مفترق قد يكون بحساسية المفترق الذي شهدته غداة الحرب العالمية الأولى , وسقوط السلطنة العثمانية , يفترض بنا , كإعلاميين نرى كيف تعبث الأيدي الغليظة بمصيرنا , إلقاء الضوء على الحقيقة , لا أن نؤخذ بجاذبية اللحظة , ونحجب هذه الحقيقة , بالكاميرات المبرمجة , وبالأفواه المبرمجة , لنسأل ما إذا كان الحكام الجدد الذين ندرك طبيعة تكوينهم الإيديولوجي وحتى السيكولوجي , يفقهون ما هي سوريا التي وصفها المؤرخ الفرنسي جان ـ بيار فيليو بـ"الابنة الكبرى للتاريخ" , والتي أعطت روما سبعة أباطرة , لتكون ملتقى الحضارات , وملتقى الثقافات , كما ملتقى الباحثين عن عبقرية المنطقة , سواء أتوا من أقاصي الشرق أم من أقاصي الغرب ...
هكذا , لا يمكن لسوريا إلا أن تكون سورية , دون أن ننسى الصمت المطبق لنجوم التغيير , حين كانت القاذفات الإسرائيلية تعري سوريا من كل مقومات الدولة , ليتضح الهدف أكثر فأكثر . هل لتكون القهرمانة في الحرملك التركي , أم لتكون القهرمانة في الهيكل الإسرائيلي .
على كل أوضح "قائد إدارة العمليات العسكرية" أحمد الشرع (لاحظوا الصفة الملتبسة) , بأن التغييريين ليسوا في وارد خوض الصراع مع إسرائيل . لا أحد طلب منه ذلك . ولكن هل أن الطائرات والسفن الحربية , ومخازن الأسلحة , هي ملك لآل الأسد أم هي ملك لسوريا , وبعدما صدر إنذار بضرورة إعادة الأطباق والأحذية التي نهبت من القصر الرئاسي ؟
إذاً , إنه السلام مع إسرائيل , ولتذهب مرتفعات الجولان إلى بنيامين نتنياهو , مع خشيتنا من أن تذهب مدينة حلب ومحيطها إلى رجب طيب أردوغان . وزير الخارجية جدعون ساعر واثق من أن بنيامين نتنياهو سيتجول في حارات دمشق . ليس غريباً أن يحكى الآن عن "الياسمين الأسود" في المدينة .
إنها , إذاً , سنوات الرماد في انتظارنا . دونالد ترامب المايسترو الوحيد , واللاعب الوحيد , على رقعة الشطرنج التي كانت أميركية , ويفترض أن تكون إسرائيلية أيضاً , ليبدو السفير الأميركي العتيد في تل أبيب مايك هاكابي , وكأنه جاء لتوسيع حدود إسرائيل لتكون "إسرائيل الكبرى" .
استطراداً ,هل يحقق أردوغان أمنيته بـ"تركيا الكبرى" , ما دامت الأرض السورية مباحة حتى للأوزبك , وللطاجاك , وللشيشان .
ما يستشف من وسائل الإعلام الأميركية , أو من الدراسات التي تضعها المعاهد المتخصصة , والتي يستند إليها الساسة في رسم السياسات , والاستراتيجيات , أن الرئيس الأميركي قد لا يكتفي , هذه المرة , بـ"تغريدات الغراب" , . هو الأمبراطور في ؟
أميركا العظمى" , والذي تريد ابنته إيفانكا , المعجبة بـ"بطولات" نتنياهو , توجيه ضربة , أو ضربات , إلى إيران . إذ ذاك تكتمل حلقات السيناريو , وتظهر الخريطة الجديدة للمنطقة التي بشّر النص التوراتي بأن تكون "إمبراطورية يهوه" !
ولكن ألم يكن جيمس بيكر , وزير الخارجية في عهد الرئيس جورج بوش الأب , الأكثر حنكة , والأكثر حكمة , من ذلك النوع من وزراء الخارجية بالرؤوس العائمة ليقول "إذا ما أردنا تحويل الشرق الأوسط إلى جهنم , لا بد أن نجد أنفسنا داخل هذه الجهنم" . دعا إلى "احتساب خطواتنا مثلما نحتسب دقات قلوبنا , وربما أكثر" .
لا نتصور أن الحكام الجدد في سوريا , المبرمجين على التوقيت العثماني , يفهمون سوريا أيضاً . وهل يبقون كما هم حينما يستشعرون "ملذات السلطة ومباهجها" . لا أحد منهم قرأ ما يقوله "عشاق الشرق" في القارة العجوز عن سوريا , ولا عن الشرق الأوسط الذي يحذر الإنكليزي ديفيد هيرست من النظر إليه على أنه كومة من القش , بعدما كان موشيه شاريت يرى فينا "الركام البشري المكدس في قعر الأزمنة" .
اللافت هنا تساؤل الجنرال الإسرائيلي اسحق بريك عن مدى تأثير المواجهات التي حصلت في غزة , وفي جنوب لبنان , على الأجيال العربية الجديدة التي لم تعد معنية بالبطولات الخارقة للشخصيات التي يبتدعها الخيال الهوليوودي , وقد باتت مملة ومستهلكة . إنهم يشاهدون على أرض الواقع ما يعتبرونه أعمالاً خارقة لأشخاص حقيقيين من أرضهم , ومن بيئتهم , وهم يواجهون واحدأ من أبرز جيوش العالم , ويكبدونه الخسائر البشرية والمادية الهائلة .
وراء الضوء كلام عن حتمية انفجار العلاقة بين بنيامين نتنياهو الذي يريد إعادة إحياء مملكة داوود , وهو على أبواب دمشق , ورجب طيب أردوغان الذي يريد إعادة إحياء سلطنة عثمان , وهو في شوارع دمشق .
لكنها المدينة التي رأى فيليو اياه أنها لم تنكسر عبر الأزمنة . لأنها , كأقدم مدينة مأهولة , "البوابة الرئيسية إلى الزمن" . لهذا ثمة من يدعونا إلى إبقاء عيوننا مفتوحة على اليوم التالي . لن يكون اليوم الأميركي , ولا اليوم الإسرائيلي . ذات يوم قال فلاديمير بوتين (وكم هم العاتبون عليه اليوم !)"إن النظام العالمي الجديد ينبثق من دمشق" , وإن قيل أن دونالد ترامب سيدخل إلى دمشق مثلما دخل هولاكو إلى بغداد . دخل بالدم وخرج وهو يصرخ " رأسي يكاد يقع عن كتفيّ" !!