علي دربج - خاص الأفضل نيوز
حتى الآن، لم يستفق العالم بعد من هول صدمة ذوبان النظام السوري كالثلج. فالكارثة الكبرى أن الرئيس الهارب بشار الأسد لم يكتفِ بالفرار بالخفاء تحت جناح الليل، إنما طبّق حرفيًا معادلة "أنا وعائلتي الصغيرة ومن بعدي الطوفان"، فخذل بذلك ليس فقط حليفته الأقرب إيران، بعدما أورثها حملًا ثقيلًا من الخسائر الاستراتيجية.
أكثر من ذلك، غدر الأسد بأنصاره ومواليه الخُلّص، فكانوا آخر من يعلم بما كان يدور على الأرض، متخليًا عنهم دون أن يرف له جفن. والأنكى، أن بعض أفراد عائلة الأسد أدركوا في اللحظة الأخيرة حقيقة ما يجري، ونجحوا بالنجاة بأنفسهم والخروج من البلاد، ولسان حالهم يقول: "تعرّضنا للخيانة".
وعليه، فإن الظروف التي توفرت للتخلص من هذا النظام المهترئ، كانت مزيجًا من الصدفة وإعادة التنظيم على المستويين المحلي والعالمي. حيث كانت تركيا المخطّط والمشرف على كل خطوة بخطوة، فيما إيران، بالرغم من حراجة الوضع، لم تغادر مربع الصبر الاستراتيجي.
وعندما تحرّكت، كانت السجادة التي استمرت طهران بحياكتها لعقود طويلة قد أحرقتها تركيا بين ليلة وضحاها، وبذلك خسر امتدادها الحيوي وخط الإمداد الرئيسي للمقاومة في لبنان. أما روسيا، كما عهدناها، فقد مضت بسياسة المساومة والبيع والشراء، التي كلفتها خسارة المنفذ الوحيد على المياه الدافئة.
وانطلاقًا من هنا، سنقوم بسرد الرواية الكاملة لسقوط الأسد، وهي تستند إلى مقابلات أجرتها الصحافة الأمريكية، لا سيما صحيفة الواشنطن بوست، مع مقاتلين وقادة متمردين، ومسؤولين غربيين وأتراك، وشخصيات من المعارضة السورية، ودبلوماسيين إقليميين.
"الهيئة" واستغلال الهدن العسكرية مع روسيا
قبل خمس سنوات، كانت "الجماعات السورية المعارضة" تعاني من الفوضى، لا سيما بعد الهجوم الحكومي العنيف الذي شنه النظام مدعومًا من روسيا على محافظة إدلب، وأدى إلى انتزاع السيطرة على مناطق استراتيجية، بما في ذلك طريق سريع رئيسي.
ما يبعث على الغرابة، أنه في أيار 2020، عُقدت هدنة بين النظام و"الفصائل المعارضة" بوساطة روسية-تركية، فاستغلت "هيئة تحرير الشام" الفرصة وعملت على إعادة تنظيم صفوفها.
ومنذ أن تخلى رئيس "الهيئة" أحمد الشرع عن انتمائه إلى "تنظيم القاعدة الإرهابي" قبل ما يقرب من عقد من الزمن، ركّز الأخير على بناء الحكم في إدلب، فعمل على تجميل صورته وصورة هيئته، بهدف التخلص من تصنيفاتها الإرهابية العالمية وتعزيز سيطرته على مناطق نفوذه.
ومن خلال تشكيل إدارتها الخاصة، وإنشاء المحاكم، وتقديم الخدمات، كانت "الهيئة" تجهد لكسب ثقة الجمهور الإدلبي. كما عملت على تنويع إيراداتها المالية التي تدفقت عليها من مصادر متعددة، وفي مقدمتها السيطرة على معبر باب الهوى الحدودي الاستراتيجي مع تركيا، فضلًا عن جمع الضرائب والتبرعات من رجال الأعمال، وفرض الرسوم على المنتجات الزراعية (بالرغم من الاحتجاجات الشعبية)، بالإضافة إلى احتكار سوق إمدادات الوقود، وهو الأهم، مما وفّر التمويل اللازم للمعركة المقبلة.
تحضيرات الهيئة للهجوم.. وعلاقة "حزب الله" بالتوقيت
كانت "هيئة تحرير الشام" تخطط بهدوء لشن هجوم مضاد من شأنه أن "يغيّر ميزان القوى على الأرض". لذا ركزت على "الإعداد العسكري"، كما أوضح آرون واي زيلين، باحث قضى سنوات في دراسة المجموعة.
تبعًا لذلك، أنشأت الهيئة الكلية العسكرية في عام 2021، وعملت على "دمج جميع الجماعات المتمردة التابعة لها — سواء عبر اللجوء إلى القوة أو باختيار طرق أخرى كالدعوة الدينية". كما استغل الشرع "الاحترام" الذي اكتسبه على مر السنين من قبل قادة الهيئة وفصائل متمردة أخرى. وبالنهاية استطاع جمعهم تحت قيادة موحدة، وهو ما انعكس على المجموعات التي أصبحت تتمتع بانضباط أكبر، وفقًا لزيلين.
بالمثل، أعطت الوحدات العسكرية في "الهيئة" الأولوية لاختصاصات معينة، مثل المدفعية أو الطائرات المسيّرة، التي استُخدمت سابقًا لشن غارات ضد القوات الحكومية، مما أسفر عن مقتل جنود والاستيلاء على أسلحة. وقد عُدت هذه العمليات جزءًا من التدريب على "الهجوم الكبير".
بموازاة ذلك، كانت الاستعدادات تسير على قدم وساق وعلى جميع المستويات، بما في ذلك إنتاج الأسلحة وتوحيد الفصائل المتمردة، بحسب موسى الأسعد، أحد أعضاء الهيئة، الذي تحدث لصحيفة واشنطن بوست.
وفي وقت سابق من هذا العام، قدمت الهيئة خطة الهجوم إلى تركيا، على ذمة الأسعد، الذي أوضح أن أنقرة وافقت على الخطة من حيث المبدأ، لكنها لم تعطِ الضوء الأخضر لتنفيذها.
وبحلول أكتوبر الماضي، أصبحت الخطة الهجومية سرًا مكشوفًا.
فالهيئة كانت ترغب في بدء العملية "في اليوم الأول من غزو إسرائيل للبنان"، نظرًا لاعتقادها أن حزب الله سيقوم "بسحب مقاتليه من الجبهات في شمال سوريا.
ومع محاولات جيش الاحتلال التوغل البري في جنوب لبنان بداية أكتوبر الفائت، استمرت التحضيرات للهجوم، لكنها كانت مغلقة إلى حد كبير بفعل الحرب الإسرائيلية. غير أن الأمور ما لبثت أن أصبحت علنية، مع نشر صحيفة تركية مؤيدة لحكومة أردوغان، في 11 أكتوبر عنوانًا مفاده: "القذائف موجهة نحو حلب".
لهذا قال باحث تركي يُدعى أوزكيزيلجيك، من مجلس الأطلسي، إن الهجوم كان قد أصبح "معروفًا على نطاق واسع في سوريا"، لدرجة أن حكومة الأسد وحلفاءها الروس "زادوا بشدة من حملتهم الجوية في إدلب".
الدور التركي واسقاط الاسد
عمليًا، لعبت تركيا دورًا أساسيًا ومتقدمًا في عملية إسقاط الأسد. وتعليقًا على ذلك، يقول محمد شاهين، عضو البرلمان التركي من حزب أردوغان الحاكم: "من السذاجة أن نتوقع من دولة منخرطة بشكل كبير، ألا تتابع ما يحدث في سوريا".
جاءت نقطة التحول بعد اجتماع في 11 نوفمبر الماضي، في (أستانا – كازاخستان) بين إيران وتركيا وروسيا، عندما وجهت أنقرة تحذيرًا موجهًا إلى الحكومة السورية وشريكها الروسي، موضحة أن الوضع الراهن في البلاد — دون أي تحرك نحو حل سياسي بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب الأهلية — كان غير قابل للاستمرار، وفقًا لشاهين.
وأضاف المسؤول التركي: "حذرت أنقرة النظام ومؤيديه أنه إذا استمروا في مهاجمة المدنيين والبنية التحتية المدنية في إدلب، يجب عليهم توقع رد فعل قوي من المتمردين". وبعد أستانا، أعطت تركيا الضوء الأخضر للمتمردين السوريين للمضي قدمًا، استنادًا لما قاله الأسعد.
تنسيق روسي ـــ تركي مواكبةً "لهجوم الهيئة"
كانت روسيا على اتصال خلف الكواليس مع تركيا، تسعى للحصول على معلومات حول خطط الهيئة مع تحرك مقاتليها جنوبًا، بحسب مسؤول أمني غربي الذي أشار ايضًا إلى أن الأتراك استخدموا بدورهم المحادثات لتوضيح نقطتين رئيسيتين: الأولى، عدم جدوى دعم الأسد على المدى الطويل.
والثانية، قصف "هيئة تحرير الشام" لن يؤدي إلا إلى تأليب قادة سوريا المستقبليين ضد موسكو.
اللافت أن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أكد هذه التحذيرات في مقابلة أجريت معه في وقت سابق من هذا الشهر. وقال فيدان لقناة إن تي في التركية: "طلبنا من الروس عدم قصف السكان المدنيين، وعدم التسبب في المزيد من المجازر والنزوح".
وأضاف فيدان: "لقد قلنا بوضوح شديد: الرجل الذي استثمروا فيه ليس رجلًا قابلًا للاستثمار..
الظروف في المنطقة لم تعد كما كانت عليه من قبل".
أردوغان لإيران: فاجأناكم
في الحقيقة، عُدت إيران الخاسر الأكبر في سوريا، رغم أنها حاولت إنقاذ الأسد. ولهذه الغاية، أكد قائد الحرس الثوري الإيراني، اللواء حسين سلامي، أن الاستخبارات الإيرانية كانت على علم بهجوم مخطط له قبل أشهر من إطلاقه، مشيرًا إلى أن الحكومة السورية رفضت اتخاذ إجراءات بناءً على تلك المعلومات.
وأضاف: "تمكن إخوتنا من تحديد محور هجومهم باستخدام تقنيات استخباراتية، ونقلوا ذلك إلى المستويات السياسية والعسكرية في سوريا". لكنه أوضح أن الأسد وداعميه كانوا يفتقرون إلى "الإرادة" لـ"الحرب والمثابرة".
ويتابع سلامي: "مع قيام طهران بمحاولة نقل المزيد من الموارد البشرية والعسكرية إلى سوريا، كانت جميع طرقنا للنقل قد تم حظرها. وبمجرد سقوط حماة في يد قوات الهيئة، غيرت إيران مسارها، حيث قررت أنه لم يعد بالإمكان دعم الرئيس"، وفقًا لدبلوماسيين إقليميين.
من جهته، يؤكد أحد أعضاء عائلة الأسد ومسؤول دبلوماسي روسي، أنه كان من المتوقع أن يأمر أردوغان بوقف الهجوم بعد أن استولت الهيئة على حلب، من أجل إجراء مفاوضات، لكن لم يكن هناك توقف. فقد "فاجأهم أردوغان".
نهاية حرب لبنان وبدء هجوم "الهيئة"
كانت الهيئة تراقب ما يجري في لبنان. لكن في 26 تشرين الثاني الماضي، وعلى إثر إعلان وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل، قررت التحرك في صباح اليوم التالي، خوفًا من أن "مقاتلي الحزب سيعودون إلى سوريا وينضمون إلى نظام الأسد في معاركه".
يروي مسؤول أمريكي سابق، أنه "مع انطلاق المتمردين من مناطق مختلفة في سوريا، اتفقت الفصائل على خطة عملياتية، فأرسل الجميع جميع رجالهم".
تألفت القوات المهاجمة من تحالف يشمل جماعات متعددة، بقيادة "هيئة تحرير الشام" وألويتها الـ14، إضافة إلى "كل" الفصائل المعارضة تقريبًا، بما في ذلك المقاتلون المدعومون من تركيا والمنضوون تحت راية "الجيش الوطني السوري الحر".
بالمقابل، يوضح قيادي ميداني من الهيئة، أن القوات المهاجمة لم تواجه مقاومة كبيرة أثناء تقدمها من الشمال. ويتابع: "مع اشتداد المعركة في الخط الدفاعي الأول خارج حلب، فقدت الهيئة أفضل مقاتليها في المرحلة الأولى. لكن بعد ذلك، بدأت قوات النظام بالتراجع"، لافتًا إلى أنه تفاجأ بسرعة التقدم. وقال: "سقطت جميع المناطق الأخرى بسرعة وسهولة، وفرت قوات النظام".
بعد سيطرة الهيئة على مدينة حلب والمقاطعة المحيطة بها، بدأت بالتواصل مع قيادات وعناصر من جيش النظام لتشجيعهم على الانشقاق. وقد شمل ذلك استخدام الطائرات المسيرة محلية الصنع لإلقاء منشورات فوق الوحدات الحكومية، تحتوي على أرقام هواتف يمكن أن يستخدمها الجنود المنشقون للتواصل مع الهيئة لإعلان استسلامهم.
وفي أعقاب سقوط حلب، تراجعت الضربات الجوية الروسية ضد الهيئة التي اندفعت نحو حماة ثم حمص (في الجنوب)، ثالث أكبر مدينة في سوريا، والمدخل إلى العاصمة والساحل. ولاحقًا دخلت "الهيئة" المدينتين دون أي مقاومة تذكر.
فرار الأسد وخداعه للمقربين والعائلة
من غير الواضح تحديدًا، متى أدرك الأسد أن حكمه كان محكومًا عليه بالانهيار. غير أنه، قبل 48 ساعة فقط من سقوط دمشق، كان المسؤولون رفيعو المستوى في العاصمة وأعضاء الدائرة المقربة من الرئيس الفار، يتصرفون كما لو أنهم لا يرون تهديدًا على مقعد السلطة للأسد.
نقلت صحيفة الواشنطن بوست عن أحد الأشخاص الذين وصلوا إلى المدينة في 6 ديسمبر الحالي، وكان يعمل بشكل منتظم كقناة خلفية بين الأسد والحكومات الغربية والعربية، قوله: "في الأيام التي سبقت انهيار الحكومة السورية، كان جزء من مجموعة من أفراد العائلة قد تجمعوا في موسكو في 2 ديسمبر لحضور تخرج أحد أبناء الأسد من مدرسة روسية."
وتابع المصدر: "كل شيء كان كالمعتاد. الجميع يعتقدون أن هناك نوعًا من الصفقة الاستراتيجية التي يتم صياغتها بين تركيا وروسيا. وكان الناس لا يزالون واثقين من أن الروس والإيرانيين سيتدخلون لمساعدتهم."
بينما كانت الجدران تضيق حول الأسد، استمر الأخير بخداع المقربين منه، من خلال الاستمرار في طمأنة بعض أفراد عائلته بأن نظامه سيصمد، مع أنه عمد إلى تحضير حقائبه بالفعل. والأنكى أنه لم يخبر أحدًا بشيء.
في المحصلة:
لم يُظهر بشار الأسد لأي من موظفيه أو أفراد عائلته أنه كان سيهرب، مما تركهم دون وقت لتنظيم طرق الفرار. الطامة الكبرى، أن بنات أخ بشار كنّ مع حارسهن الشخصي عندما اكتشفن أن عمهن قد غادر. وكان الحارس هو من تمكن من إيجاد طريقة لإخراجهن من البلاد بشكل سري. في ذلك الوقت، كان الأسد قد فرّ بالفعل والتحق بزوجته وأطفاله، الذين كانوا يعيشون في موسكو منذ أشهر، بحسب أقاربهم.