د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
عشية تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يترقب العالم وبقلق المحاولات التي سيقوم بها لإعادة صياغة السياسة الخارجية للولايات المتحدة مستندًا في ذلك على شرعيته الشعبية، فضلاً عن تحرّره من القيود السياسية الظرفية المرتبطة بالسعي إلى إعادة انتخابه.
فالتشنجات الجيوسياسية الشديدة في عدة مناطق على امتداد الكرة الأرضية، تفتح نافذة من الفرص لتحقيق هذا التغيير. اللافت أن هذا التحوّل (وفي حال نجح في تحقيقه) سيشكل انحرافًا عن المسار الثنائي الحزبي المتبع بشكل روتيني من قبل الولايات المتحدة لعقود بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
ترامب واستراتيجية الهيمنة غير الليبرالية
عمليًا، تختلف النظرة إلى ترامب، ففي حين يصوره البعض على أنه راعي بقر متهور وشغوف بإشعال الأزمات نتيجة لما يُعتبر جنون عظمته، ولكن في الوقت نفسه، بالمقابل يصفه آخرون أيضًا على أنه انعزالي غير مسؤول وجبان حريص على اتباع "سياسة النعامة" المجازية، أو على أنه تجسيد لتشامبرلين (نِيفيل تشامبرلين Neville Chamberlain"، سياسي بريطاني شغل منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة من عام 1937 إلى عام 1940. وقد اشتهر بسياسة الاسترضاء) لأنه بسبب ميله المزعوم إلى الاسترضاء.
لكن مهلاً، إذا احتكمنا للنتائج الملموسة لإدارته الأولى، نجد أنه ليس داعيًا للحرب، أو حمامة، أو انعزالية. وعليه، ولوضع الأمور في نصابها الصحيح، علينا أن نضع في اعتبارنا أن ترامب أمر باغتيال قائد فيلق القدس الشهيد الجنرال الإيراني قاسم سليماني، غير أنه لم يدخل في حرب واسعة النطاق مع إيران، بالرغم من استعداده لمواجهة النظام الإيراني.
ليس هذا فحسب، يعتمد ترامب بشكل واضح على عنصر المفاجأة الاستراتيجية كأصل يمكن الاستفادة منه لتحقيق التفوق. ومع ذلك، فإن الحقائق على الأرض — وتصريحاته، ورؤية الشخصيات الرئيسية في دائرة إدارته الداخلية — تشير إلى أن الإدارة الثانية لترامب ستتبع استراتيجية كبرى تُعرف بـ"الهيمنة غير الليبرالية".
وانطلاقًا من هذه النقطة، يعكس هذا النهج السلوكي الالتزام بالحفاظ على أولوية الولايات المتحدة في محفل الأمم من خلال التفوق العسكري والاقتصادي والتكنولوجي. كما أنه يتبنى مسارًا رصينًا يفضل "السلام من خلال القوة" عندما يتعلق الأمر بتأمين المصالح الوطنية الأمريكية، بدلاً من التنفيذ العالمي للقواعد الجماعية لصالح "المجتمع الدولي" الوهمي.
ترامب والصين: ردع واحتواء في آن
في الحقيقة، يعتزم فريق ترامب إعادة تركيز نطاق السياسة الخارجية الأمريكية على منطقة المحيط الهادئ والهندي، التي يُنظر إليها باعتبارها المركز الرئيسي للجاذبية الجيوسياسية والاقتصادية في العالم. وعليه، ستكون أولوية البيت الأبيض في هذه المنطقة هي انتهاج سياسة تجاه الصين تجمع بين عناصر الردع والاحتواء، بعيدًا عن المواجهة الحركية المباشرة التي قد تطلق العنان لتداعيات عسكرية سيئة، وتؤدي إلى تأثيرات سياسية هدّامة، وإفلاس مالي. إذ إن تكاليف ومخاطر حرب الهيمنة الأشبه بالحرب البيلوبونيسية (هي سلسلة من الحروب التي دارت بين اتحاد أسبرطة "الاتحاد البيلوبونيسي" واتحاد أثينا "الاتحاد الديلي" في اليونان القديمة، والتي استمرت من عام 431 قبل الميلاد، حتى عام 404 قبل الميلاد.) بين الولايات المتحدة والصين تفوق أي مكاسب محتملة.
علاوة على ذلك، كتعبير عن الفرع القومي للاقتصاد السياسي، ترفض MAGAnomics (هو مصطلح يشير إلى السياسات الاقتصادية التي اتبعها ترامب، وهي مستمدة من شعاره الشهير "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى") التجارة الحرة باعتبارها الوصفة العالمية والخالدة التي تؤدي إلى الرخاء والثروة الوطنيين. ووفقًا لهذا التفكير التجاري الجديد، فإن السلطة والمال هما وجهان لعملة واحدة. وبما أن كل منهما يرعى الآخر بشكل تكافلي، فإن الاختيار بين أحدهما والآخر هو معضلة زائفة.
وتبعا لذلك، ومن أجل ضمان التفوق الاقتصادي للولايات المتحدة ــ الذي يواجه تحديًا غير مسبوق بسبب قوة الجاذبية المحتملة للاقتصاد الصيني ــ يعتقد ترامب أن فن الحكم الاقتصادي في الولايات المتحدة يحتاج إلى الاعتماد على تدابير التدخل التي تشمل: تنفيذ التعريفات الحمائية أو العقابية، وأعمال الحرب الاقتصادية، واستراتيجيات "التحويل القريب" (أي نقل بعض أو كل الأنشطة التجارية أو الإنتاجية من دول بعيدة إلى دول قريبة جغرافيًا من أسواقها الرئيسية) التي تقودها الدولة، وتقديم جزرة الوصول التجاري إلى السوق الاستهلاكية الأمريكية، مقابل الامتيازات والسياسات الموضوعة لتشجيع ديناميكية القطاعات الصناعية الاستراتيجية التي توفر الفوائد والمزايا والخدمات الاقتصادية التي تعزز القوة الوطنية.
أكثر من ذلك، سيعمل ترامب على الحفاظ على الدور المهيمن للدولار الأمريكي كعملة احتياطية رئيسية في العالم ـــ وهو ركيزة أساسية تدعم القوة الوطنية الأمريكية. ونظرًا للتحديات التي ستواجه العملية الأمريكية في المستقبل، خصوصًا من قبل دول مجموعة البريكس التي تهتم بتطوير بدائل يمكن أن تعزز من سياسة إزالة الدولار من التداول العالمي، يقترح البعض على ترامب إنشاء "احتياطي البيتكوين الوطني الاستراتيجي".
صحيح أن ترامب خلال ولايته الأولى كان معروفًا بمعارضته الشديدة للعملات الرقمية، لكن من المحتمل أنه تحت تأثير إيلون ماسك — وهو معجب صريح بالعملات الرقمية — أن يعيد الرئيس الأمريكي تقييم موقفه، بحيث يمكن الاستفادة منها كأصول احتياطية، وليس فقط بسبب ارتفاع أسعار صرفها. فاستنادًا لتقرير أعده معهد سياسات البيتكوين، فإن اعتماد البيتكوين وتسييله قد يوفر فوائد استراتيجية للأمن القومي الأمريكي، مثل إمكانية تعديل الأنظمة النقدية والمالية في العالم وفقًا لمصالح الولايات المتحدة بمجرد أن تتجاوز هيمنة الدولار فترة صلاحيتها.
ترامب الاقتصاديات الجغرافية العالية التقنية واللعبة الكبرى
إن ما سيميز إدارة ترامب الثانية هي قربها السياسي والأيديولوجي من ممثلي الشركات الكبرى الذين يمثلهم وادي السيليكون، بما في ذلك إيلون ماسك، وبيتر ثيل، وفيفيك راماسوامي (مستثمرين بارزين في مجال التكنولوجيا)، من بين آخرين. لذا وفي عصر يشهد سباقًا مستمرًا للتفوق في مجال التقنيات الحدودية ذات الاستخدام المزدوج، تتدافع القوى العظمى لإطلاق العنان لإمكانات تغيير قواعد اللعبة من خلال اختراقات مثل الذكاء الاصطناعي، التصنيع الإضافي، الطائرات بدون طيار، تكنولوجيا النانو، تصنيع الرقائق المتقدمة، أشباه الموصلات، إنترنت الأشياء، المركبات الكهربائية، المنصات العسكرية المستقلة، الأسلحة القائمة على الفضاء، الروبوتات وعلم الأحياء الصناعي.
ولهذه الغاية، وفي ما يسمى بعصر المعلومات، فإن تجنيد مساهمة شركات التكنولوجيا الفائقة باعتبارها شركات وطنية رائدة، سوف يشكل أهمية بالغة لتحقيق الهيمنة الاستراتيجية في الاختراعات التكنولوجية المتطورة. ولهذا أصبحت الاقتصاديات الجغرافية العالية التقنية تعرف باسم "اللعبة الكبرى" الجديدة.
إحياء مبدأ مونرو
يعتبر المنظّر الأمريكي الهولندي نيكولاس سبيكمان، أن المحيط الجيوسياسي للأمن القومي لأمريكا الشمالية يشمل كل من: كندا، البر الرئيسي للولايات المتحدة، المكسيك، غرينلاند، ومنطقة أمريكا الوسطى، خليج المكسيك ومنطقة البحر الكاريبي الكبرى، بالإضافة إلى الأجزاء الإقليمية الشمالية من كولومبيا وفنزويلا.
من هنا، كانت إدارات الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين السابقين مهملة تجاه منطقة يُنظر إليها تاريخيًا على أنها الفناء الخلفي الحصري لواشنطن بسبب تركيزها على الزوايا النائية من الكوكب مثل آسيا الوسطى، ومنطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ. وبما أن الطبيعة تمقت الفراغات، فإن مثل هذا الموقف سهّل صعود البرازيل كقوة إقليمية عظمى في حد ذاتها، كما ساعد بانتشار المحور "البوليفاري" من الدول المناهضة لأميركا، وتسبب بتفاقم الأزمة الأمنية في المكسيك بسبب قوة الجريمة المنظمة المطلقة، والأهم أنه أدى إلى نهوض قوى عظمى من خارج المنطقة مثل روسيا والصين وحتى إيران.
ولهذه الغاية، تستعد إدارة ترامب للاعتماد على التوازن الخارجي وتقاسم الأعباء في أوروبا الشرقية وغرب آسيا والشرق الأقصى، كما ينوي ترامب تصحيح هذا الخطأ وزيادة مشاركة الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي لضمان نفوذها.
في المحصّلة:
في حين أن واشنطن لن تسعى بعد الآن للهيمنة الأحادية العالمية، رغم طموحاتها في منطقة الهندو-الهادئ، من المحتمل أن تعيد تموضعها كقوة هيمنة إقليمية وحيدة في القارة الأمريكية. وبالتالي فإن هذا المسار يتوافق مع إحياء مبدأ مونرو في عصر عودة الإمبراطوريات المتعددة الأقطاب.