عبدالله قمح - خاصّ الأفضل نيوز
يعود الزمن بوليد جنبلاط إلى الوراء، إلى ميادين المواجهات المصيرية. فلا هو من القادة الذين يستقيلون أو يتخلون عن أدوارهم ولا هو من أولئك الذين يقبلون العيش على هامش الأحداث. يأبى زعيم الجبل الاستقالة فيما النزاعات تلاحقه، وهو بدوره يلاحقها مصراً على أن تكون له بصمة مستمرّة ومتجدّدة، كأنها لعنة متوارثة في بيت المختارة.
في زمن التمدد الأميركي – الإسرائيلي، سواءً في المنطقة أو في عمق المشهد اللبناني، حيث تتكشّف مشاريع الاستثمار في الدروز وتصعد من العمق نحو السطح، يجد "بك المختارة" نفسه في معركة مفروضة عليه، لا تبدأ في جبل لبنان ولا تنتهي عند حدود جبل العرب. أدواتها غير تقليدية، وساحاتها ليست مألوفة، ولا يُفترض أن تكون المواجهة هذه المرة تقليدية.
إلغاء إحياء ذكرى اغتيال "المعلم" كمال جنبلاط في السادس عشر من آذار، وما رافقه من طي صفحة تاريخية بعد أن أخذ العدل مجراه، لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل مقدمة لنضال جديد، أوسع وأشمل، يهدف إلى منع "أسرلة" الدروز وإبقائهم ضمن الحيز العربي الكبير. فالمخططات تُدار على المكشوف، باعتبارها مقدمة لشطب الدروز من معادلة التاريخ والنضال ضد الاستعمار، ولتمكين إسرائيل من ترسيخ هويتها اليهودية.
لكن التحدي لا يقتصر على فلسطين والجولان؛ فجنبلاط يراقب خطراً يتهدد دروز لبنان مع الزحف القادم من سوريا، وما يحمله من محاولات لجرّهم إلى هذا المشروع. وهو يضع تحت المجهر محاولات البعض ترسيخ أفكار الانفصال عن الحالة الجنبلاطية أو عن الزعامات التقليدية، سياسياً وروحياً، ومدى جدية تسويق البدائل أو إفساح المجال أمامها، مع العلم أن جنبلاط اختبر حدثاً مشابهاً لكنه أقل حدّةً ولم يبلغ الطموحات الحالية، زمن انتفاضة 17 تشرين.
الأمر يستدعي إعلان حالة طوارئ سياسية وانتقالاً إلى مواجهة جديدة، خصوصاً أن ثمة من يراهن على لحظة تاريخية قد توهمه بأن الانقلاب على جنبلاطية المختارة ممكن.
ما أعلنه جنبلاط في ذكرى 16 آذار ليس مجرد شدّ للعصب الاشتراكي ودعوته إحلال مبادئ الاشتراكية داخل المجتمع الدرزي، ولا هو محاولة لترسيخ مبدأ المساواة ومنع الانزلاق إلى التطرف المذهبي فحسب، بل يتعداه إلى دعوة لتعزيز مناعة "المجتمع الدرزي" وعبره تأمين الانتقال السلس للزعامة الجنبلاطية دون المساس بها. فـ"بك المختارة" موجوس بتوفير ظروف حماية "زعامة تيمور"، ربطاً بما يمتلك من نماذج واضحة لمحاولات ضرب هذه الزعامة أو على الأقل تقليص نفوذها.
لهذا، يضرب جنبلاط بسيفه ويرفع صوته، ولا يغادر السياسة، كما أنها لا تقبل مغادرته. المختارة، الدار العتيقة، تتحول إلى خلية نحل، والبيك يوجه رسائل واضحة، آخرها يوم 16 آذار، حيث كشف عن جزء من أنيابه السياسية، وهو مستعد للمزيد، طالما أن التحديات لم تعد محصورة بالدروز وحدهم، بل تجاوزتهم إلى ما هو أبعد.
لا تخفي الأوساط الجنبلاطية أن المعركة هذه المرة مختلفة، من حيث الأدوات والحدود والميدان، لكنها تشبه كثيراً محطات عابرة خرجت منها المختارة وأهلها أقوى. وهي تدرك أن المواجهة قد تشهد خروجاً عن النص، وربما تجاوزاً للمحرمات السياسية، وصولاً إلى توجيه ضربات تحت الحزام. فالأداء الجنبلاطي يزعج من يحاول فرض مشروعه الجديد، والقلق الأكبر ليس من الضغوط السياسية، بل من الضربات الجسدية التي قد لا تقوى الأجساد على تحملها.
محطة جنبلاط المقبلة ستكون دمشق، للمرة الثانية على التوالي، لكن الزيارة لن تكون كسابقتها. إن كان لقاء قصر المهاجرين الأول محكوماً بالبروتوكول والتهنئة بـ"جلوس أحمد الشرع على العرش"، فإن الزيارة الثانية ستكون "رحلة عمل"، تهدف إلى إعادة ترسيم العلاقة بين الدروز والدولة السورية، والإشارة بجدّية إلى طبيعة الوضع الناشئ في السويداء. يريد جنبلاط أن تَفهم دمشق هواجس الدروز، وأن يفهم الدروز موقعهم في معادلة الدولة، في محاولة لكبح الموجة العالية التي تجتاح جبل العرب.
بالنسبة لوليد جنبلاط، لا مجال لانخراط الدروز في المشروع الإسرائيلي، لما يحمله من مخاطر جسيمة، ليس فقط على وضعهم في المنطقة، بل على لبنان تحديداً، والأسوأ في شأن علاقة الدروز مع محيطهم وتكاملهم معه. وهو لا يحتمل أي خروج عن هذا السياق، سواء عبر الترويج لفكرة دولة درزية أو عبر نسج علاقات جانبية خارج منطق الدولة. الأخطر من ذلك هو تجاوز المشايخ، والتفريط برأي المختارة، وتحويل جبل لبنان إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، على غرار ما يحصل في السويداء.
جنبلاط يدرك أن المعركة المقبلة أعقد من مجرد خلاف سياسي داخلي، وأنها ليست مجرد اختبار لقوة المختارة. هي معركة بقاء سياسي، وربما وجودي، تماماً كالمعركة التي يخوضها "الثنائي الشيعي" ومجتمعه معه، في زمن تتغير فيه الخرائط وتُرسم فيه حدود النفوذ من جديد.