نبيه البرجي - خاص الأفضل نيوز
للتو، عادت بنا الذاكرة إلى مؤتمر يالطا في شباط 1945، والذي جمع فرنكلين روزفلت، وجوزف ستالين، وونستون تشرشل، دون شارل ديغول الذي كان يكرهه الرئيس الأميركي. آنذاك بدت الكرة الأرضية لكأنها قالب الحلوى على المائدة، ويتم تقطيعها بالشوكة والسكين.
الآن، التكنولوجيا غيرت أشياء كثيرة.
لا مسافات على الشاشات وجهاً لوجه، كما لو أننا أمام يالطا هاتفية.
الـ 7821 كيلومتراً التي بين واشنطن وموسكو لا تتعدى بضعة سنتيمترات.
لم يعد من دور للأنكليز، ولا للفرنسيين، في إدارة العالم. على ضفاف السويس كان الغروب الأخير للأمبراطوريتين، حين أمر الرئيس دوايت ايزنهاور، بطل الإنزال في النورماندي، كلاً من رئيس وزراء بريطانيا أنتوني إيدن، ورئيس وزراء فرنسا غي موليه، إضافة إلى رئيس وزراء إسرائيل دافيد بن غوريون، بالانسحاب من مصر بعد الحملة العسكرية الثلاثية، خريف عام 1956، والتي توخت إزاحة جمال عبد الناصر على خلفية تأميمه قناة السويس، لتخرج "التايمز" اللندنية بمانشيت "بالمكنسة خرجنا من الشرق الأوسط".
أين كان التنين في رأس كل من دونالد ترامب وفلاديمير بوتين خلال تلك المحادثة القياسية بين الرجلين؟ هنا كلام الخبير العسكري الأميركي بنيامين بنسن عن "رقصة الخناجر مع التنين". الرئيس الأميركي ليس الوحيد الذي يتوجس من تلك اللحظة التي يقتحم فيها الصينيون مقصورة القيادة، قيادة العالم، ليس فقط بلغة رجال الأعمال، وإنما بلغة الأباطرة، إذا ما أخذنا بالاعتبار ما ورد في "الكتاب الأبيض" الذي وضعته وزارة الدفاع الصينية حول الخطط الخاصة ببناء الترسانة العسكرية الموازية للترسانة الأميركية.
الرئيس الروسي يدرك أن الصينيين يحلمون بوضع اليد على سيبيريا الآسيوية (القارة السادسة) بثرواتها الهائلة التي لا تزال حتى الآن لغزاً من الألغاز.
بالمناسبة، لا يفصل تلك الصحراء الجليدية عن آلاسكا الأميركية سوى مضيق بيرينغ.
وزير الخارجية السوفياتي الراحل أندريه غروميكو قال لوزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس رونالد ريغان جورج شولتز "لماذا لا نفعل مثلما تفعل طيور البطريق على الضفتين حين تتبادل تحية الصباح؟".
وكان ريغان قد وصف الاتحاد السوفياتي بـ"أمبراطورية الشر"، وأطلق برنامج "حرب النجوم" (الذي توقف لأسباب مالية وتقنية)، بإقامة منصات فضائية مزودة بمدافع لأشعة اللايزر، وللجزيئات الالكترونية، التي باستطاعتها تدمير أي صاروخ عابر للقارات في غضون 7 أو 8 ثوان.
بعد أوكرانيا لا بد أن نتوقع تغيراً ما في دوران الكرة الأرضية. في وسائل الإعلام الغربية أسئلة حول وساطة روسية بين واشنطن وبكين لإنشاء نظام عالمي ثلاثي الأقطاب، دون تخلي الولايات المتحدة عن دورها المركزي.
ما يعنينا في الشرق الأوسط الذي يضج بالاحتمالات، وربما بالأهوال، وساطة روسية بين واشنطن وطهران، ما يمكن أن يساعد على وقف طوفان الدم في المنطقة. لا نتصور أن غزة، بالمشاهد الكارثية التي لا يتصورها الخيال البشري، وردت، في تلك الحظات التاريخية بين الرئيسين الأميركي والروسي.
العرب في لعبة الأمم ليسوا أكثر من فتات بشري في ذاكرة، أو أجندة، الفيلة.
أكثر بكثير من أن تكون هيروشيما.
بدا الفلسطينيون الذين تطاردهم القاذفات، وسط ذلك الخراب العظيم، كما لو أنهم يبحثون عن ملاذ في الهواء (هل ثمة من مشهد أكثر ماسوية من ذلك؟).
أي كائن بشري ذلك الذي في واشنطن؟ وأي كائن بشري ذاك الذي في تل أبيب، بعدما كان جدعون ساعر قد أكد أن الاتفاق الأميركي ـ الإسرائيلي يقضي بإزالة أي أثر لكل من يقض مضاجع ملوك التوراة.
ما يثير الصدمة أكثر تلك الأصوات التي تخرج من الكابيتول "لا داعي للانتقال إلى العالم الآخر لرؤية الجحيم". هل هذه أميركا بنيامين فرنكلين، أو أبراهام لنكولن، أو وودرو ولسون؟ وهل بهذا المستوى من الفظاعة تدار الكرة الأرضية، دون أن تكون جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وحتى مجلس الأمن الدولي، أكثر من حائط للمبكى.
عرب... حائط المبكى!
قد نجازف ونقول أن النظام العالمي الجديد ينبثق من غزة لا من أوكرانيا. ولكن ألم يقل روبرت كاغان، أحد منظري "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة "من بقوا في الغيبوبة لمدة أربعة قرون (إبان الحكم العثماني) يمكن أن يبقوا هكذا إلى الأبد"؟
حتى اللحظة، وربما لعقود مقبلة، نعرف من يقود العالم.
الاتفاق على بلورة صيغة للنظام العالمي الجديد يحتاج إلى أيام طويلة، وطويلة جداً. ولكن من يقود الشرق الأوسط؟ بنيامين نتنياهو استنفد كل إمكاناته، وكل أحلامه، التوراتية.
إسرائيل تهتز من الداخل. واضح أنه يتقن المراوغة السياسية والإعلامية أكثر من أي شخصية سياسية إسرائيلية أخرى. لكن حاييم برنياع يتحدث في "يديعوت أحرونوت" عن ارتجاج بنيوي في المجتمع الإسرائيلي الذي بدأ يعاني من الاحتقان ما يمكن أن يفضي إلى الانفجار.
ماذا حين يلاحظ توماس فريدمان، المعلق اليهودي الأميركي الشهير، أن الإسرائيليينَ قد يعثرون في الأكياس التي توضع فيها جثث الفلسطينيين في غزة، على جثة رجل إسرائيليٍّ بات غيابه عن المسرح وشيكاً؟