د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
حقا، كل شيء يُبهِرُك في الصين. بدءًا من التقدُّم التكنولوجي المذهل، مرورًا بسيطرتها على الإنتاج الصناعي العالمي الذي حازت فيه على المرتبة الأولى، وصولاً إلى خدمة الديليفري.
نعم، خذوا نفسا عميقًا. فما ستتعرّفون عليه وتقرؤونه في السطور التالية عن خدمة الديليفري الخاصة بالطعام فقط في هذا البلد، سيجعلكم تشعرون بالصدمة، لأن حجم الأرقام الناتجة عن هذه المهنة، ومردودها الاقتصادي والتجاري خيالي، وحتمًا لا يخطر على بال أحد.
ديليفري الطعام.. مردود بمليارات الدولارات
في النصف الأول من عام 2025، استمر قطاع توصيل الطعام في الصين بالتوسع، إلى أن وصل إجمالي الأموال التي أنفقها الناس والشركات على خدمات توصيل الطعام في الصين، إلى 1.5 تريليون يوان صيني (حوالى 208.3 مليار دولار أميركي تقريبًا)، مسجلًا نموًا ملحوظًا مقارنة بعام 2024. إشارة إلى أن الأرقام تعود لمركز Anbound "أنباوند" الصيني المتخصص في تحليل السياسات والاستراتيجيات الجيوسياسية والاقتصادية.
علاوة على ذلك، تشكّل مبيعات الطعام عبر "الديليفري" ما يقدر ب 26٪ من إجمالي إيرادات قطاع الأغذية والمشروبات في الصين، أي أنها تقريبًا زادت إلى الضعف مقارنة بما كانت عليه في عام 2019.
بالمقابل، كان مجموع المبالغ التي أنفقها الناس على طلبات توصيل الطعام في الصين في عام 2024، قد وصل الى حوالى 1.6 تريليون يوان (أي ما يعادل تقريبًا 220 مليار دولار أميركي). بينما كانت التكلفة الإجمالية المتعلقة بالسائقين، تتراوح ما بين 80 الى 100 مليار يوان (ما بين 11 و14 مليار دولار)، وهو ما يمثل ما نسبته 10٪ إلى 15٪ من القيمة الإجمالية لسوق الديليفري. (الأرقام على ذمة مركز أنباوند).
إلى جانب ذلك، أما فيما يتعلق بتسعيرة الطلب الواحد، إذ يبلغ متوسط المبلغ الذي يدفعه الزبون عندما يطلب طعامًا عبر تطبيقات التوصيل ما بين 50 و65 يوانًا، أي ما يعادل تقريبًا 7 إلى 9 دولارات، بينما تصل الأجرة التي تدفعها عادة شركة التوصيل أو "التطبيق" للسائق الذي يسلّم الطلب للزبون، إلى ما بين 7 و9 يوانات، أي حوالى 1 إلى 1.25 دولار لكل طلب، ودائمًا وفقا "لأنباوند."
الجدير بالذكر أنه ابتداء من عام 2025، بدأت الحكومات المحلية في الصين تدريجيًا بتنفيذ سياسات تقضي بإدخال سائقي التوصيل ضمن نظام التأمين الاجتماعي.
وما هو عدد العاملين بمهنة الديليفري بالصين؟
تُظهر إحصاءات مركز "أنباوند" أن لدى الصين 545 مليون عامل في خدمات الديليفري عبر الإنترنت. كما يُنفق الناس في المتوسط، ما يقرب من 3.3 مليار يوان (حوالى 458.3 مليون دولار) يوميًا على هذه الخدمة (الرقم ارتفع كثيرًا العام الجاري). ولذلك، تبدو هذه الأرقام المزدهرة، وكأنها تشير إلى أن قطاعي توصيل الطعام والخدمات اللوجستية الفورية يعيشان حاليًا مرحلة من النمو السريع.
لكن مهلاً، وعند الغوص عميقًا في العناصر الأساسية التي تقوم عليها هذه المهنة، وتحديدًا من حيث البنية والتكلفة وهيكل العمالة، نجد أنها قد تبدأ قريبًا في التراجع عن ذروتها وتدخل في مسار انحداري.
ولهذه الغاية، أجرى أحد الباحثين الكبار في مركز ANBOUND مؤخرًا بحثًا ميدانيًا في مركز فرعي لإحدى المدن الصينية، وخصص وقتًا لمراقبة سائقي توصيل الطعام أثناء عملهم في الشوارع، فاكتشف أن هؤلاء السائقين، يراجعون هواتفهم باستمرار ويسرعون في تسليم الطلبات تحت حرارة الصيف الحارقة. لذلك، يتوقّع الباحث أنه، بالنظر إلى الشكل الحالي للوجستيات التوصيل، قد لا تتمكن هذه الخدمة من الاستمرار لأكثر من عشر سنوات بشكلها الحالي.
وماذا عن مستقبل قطاع ديليفري الطعام بالصين؟
عمليًا، وانطلاقًا من التحديات التي تواجه هذه المهنة، يرى فريق مركز ANBOUND أن هناك سيناريوهين محتملين:
الأول: انتعاش تجارة الشوارع. وتبعًا لذلك، من المتوقع أن ينتقل النشاط التجاري من كونه خلف الكواليس (أي عبر المنصات الإلكترونية) إلى الواجهة مجددًا. وبعبارة أوضح، أي أن الناس قد يفضّلون مجددًا الذهاب إلى المحلات والمطاعم مباشرة بدلًا من الاعتماد على توصيل الطعام، لأن الخدمة ستصبح مكلفة جدًا، وبالتالي ستنشط مجددًا أعمال المتاجر الصغيرة والمحال القريبة من المنازل.
الثاني: الاستعانة بالتكنولوجيا بدلًا من البشر، مثل التوصيل عبر الطائرات المسيّرة (الدرونز)، الروبوتات الذكية، وغيرها من الابتكارات التي تم الحديث عنها كثيرًا في السنوات الأخيرة.
لكن، رغم أن هذه الأفكار ممكنة من الناحية التقنية، إلا أن تطبيقها على نطاق واسع في المجتمع يواجه تحديات كبيرة ومعقدة. فهذه ليست مهمة يمكن لشركة واحدة، مهما كانت كبيرة، أن تنفذها وحدها، بل تحتاج إلى تعاون في مجالات كثيرة مثل:
• تنظيم حركة المرور
• تطوير البنية التحتية
• الالتزام بالقوانين
• إعادة توزيع شبكات التوصيل
• تنسيق استهلاك الطاقة
ولهذا،ستبقى هذه الوسائل محدودة في العقد القادم، وتقتصر على تجارب محدودة النطاق في مناطق صناعية أو مجمعات سكنية مغلقة، ولن تكون كافية لإحداث تغيير شامل في المهنة بأكملها.
في المحصّلة:
بين هذين الخيارين، يبدو أن عودة النشاط التجاري إلى الشوارع التقليدية في الصين هو الاتجاه الأكثر احتمالًا مستقبلاً.