ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
لم يعد السباق بين ChatGPT وGemini مجرد تنافسٍ على دقّة الإجابة أو سرعة التحديث، لا بل تعداه ليصبح سباق على تعريف "العمل" نفسه. في غرف خدمة العملاء، وأقسام التسويق والمصارف، وكاتب الهندسة وشركات البرمجة صارت أدوات الذكاء الاصطناعي شريكًا خفيًا يتكفّل بما كان يُعدّ أمس القريب "عمل البشر": تلخيص، فرز، تحليل أولي، تصميم، وحتى كتابة أكواد بسيطة. ومع كل تحديثٍ تصدره OpenAI أو Google، يتغيّر ما يمكن للآلة أن تؤديه خلال ثانية، وما كان يحتاج فريقًا كاملًا لإنجازه خلال أيام.
على الضفة التقنية، تعزّز OpenAI قدرات ChatGPT عبر توسيع البنيّة التحتيّة الحاسوبية بشراكةٍ لافتة مع NVIDIA لبناء طاقة حوسبة تتجاوز عشرة غيغاوات، قفزةٌ تُترجم إلى نماذج أسرع وأكثر كفاءة في سياقات مؤسسية كثيفة الاستخدام. هذه القفزة تعني بلغة سوق العمل أن المهام الروتينيّة ستُسلَّم أكثر فأكثر لمحرّكاتٍ تتنفّس السيليكون، بينما يُعاد تعريف دور الموظّف البشري نحو الإشراف، التحرير المتقدّم، وصنع القرار.
في المقابل، تراهن Google على Gemini كمساعدٍ متعدد الوسائط: نص، صورة، صوت، وفيديو في سياق واحد. الأهم أن Gemini يتسلّل إلى حياة المستخدم اليومية عبر Chrome وSearch وYouTube، كما يشق طريقه إلى الشركات من بواباتٍ ثقيلة الوزن مثل Oracle و Databricks أي إلى قلب مسارات البيانات حيث تولد قرارات التوظيف وخطط المبيعات وخارطة الاستثمار. كلما تعمّق هذا التكامل، تقلّص زمن المهام القابلة للأتمتة، وارتفع الطلب على مهارات الإشراف، التحقق، والربط بين الأنظمة.
تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي تُظهر أن عقد 2025–2030 سيشهد إعادة تشكيلٍ واسعة للمهارات والوظائف، ملايين الوظائف ستتبدّل مهامها، وبعضها سيزول، فيما تظهر وظائف جديدة في البيانات والذكاء الاصطناعي والإشراف الأخلاقي. المعطيات الأحدث تجمع رؤى أكثر من ألف ربّ عمل حول العالم، وتؤكّد أن "الهجين" بين الإنسان والآلة سيصبح القاعدة لا الاستثناء. أما الإسكوا فتلفت إلى أن اعتماد الذكاء الاصطناعي يتسارع عالميًا في الشركات والحكومات، ما يفرض "تحوّلًا عاجلًا في المهارات" لمنع فجوةٍ اجتماعية في أسواق الدول النامية.
وبالانتقال إلى لبنان، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا: شحّ الإحصاءات الرسميّة لا يسمح بالجزم بنسبة الشركات التي "استغنت" فعلًا عن موظفين لصالح الذكاء الاصطناعي أو خفّضت الرواتب بإحلال الأدوات مكان الأدوار. فهنا يبدو الخطر مضاعفًا: شركات تبحث عن خفض الكلفة بأي وسيلة، ومؤسسات ترى في هذه الأدوات فرصة للاستغناء عن موظف يكلّفها راتبًا بالدولار مقابل اشتراك سنوي زهيد في خدمة ذكاء اصطناعي. وإذا لم يُواكب هذا الواقع بسياسات رسمية واضحة، وإعادة تأهيل للمهارات، فقد يجد آلاف الموظفين أنفسهم فجأة خارج اللعبة، بلا إنذار ولا بديل.
مع ذلك، فإن ملامح التأثير القطاعي تتبدّى بوضوح:
في المصارف، الأتمتة في الدردشة وخدمة العملاء والتحقّق الاحتيالي تخفّض الكلفة وتضغط على الوظائف ذات الطابع الروتيني لمصلحة أدوار تحليلٍ ومطابقةٍ رقابية أعلى مهارة، في خدمة الزبائن، تقارير الأسواق العالميّة تُظهر مسارًا واضحًا نحو الدمج: الروبوت يتكفّل بالأسئلة المتكرّرة، والموظّف يتولّى الحالات المعقّدة، أي إعادة توصيفٍ للوظيفة أكثر من كونها إلغاءً مباشرًا لها.
الأخطر اليوم، أنّ السؤال ليس: من ينتصر في سباق الذكاء الاصطناعي، ChatGPT أم Gemini؟ بل أيّهما سينجح في إعادة تشكيل سوق العمل على صورته الخاصة؟ ففي كل تحديث جديد، تسقط مهمة بشريّة أخرى من خانة "ضرورة" إلى خانة "ترف"، وكل خوارزميّة متطورة تُقابَل براتبٍ أقل أو بوظيفة تختفي من الأساس.
إنها معركة لا تدور فقط بين وادي السيليكون ووادي المعلومات، بل داخل كل مكتب وورشة ومصرف وغرفة أخبار. والسؤال الأخطر الذي يواجه العاملين اليوم ليس: أي أداة أذكى؟ بل: كم تبقّى من دور الإنسان قبل أن تبتلعه الخوارزميات؟