مهدي ياغي - خاص الأفضل نيوز
في خضمّ التصعيد المتواصل في غزة، تكشف مواقف العواصم الغربية وخطاباتها السياسية عن مسار مختلف عمّا يبدو على السطح. فبعيدًا عن الصورة التقليدية لسياسات الدعم المطلق لإسرائيل، تتشكل في الخلفية مناورة دقيقة الأركان تهدف إلى إعادة صياغة السردية الكبرى للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتحويل وجهة الغضب الشعبي المتنامي في الغرب من إدانة الممارسات الإسرائيلية إلى تحميل حركة حماس المسؤولية الكاملة عن استمرار الحرب والمأساة الإنسانية في القطاع المحاصر.
إنها خطة متكاملة الأدوات والأهداف، تجمع بين التحركات الدبلوماسية والخطابات الإعلامية المدروسة لتقديم واقع سياسي جديد يخدم الرواية الإسرائيلية، ويمنح الحكومات الغربية مخرجًا من مأزقها الداخلي أمام الشارع الغاضب من صور الإبادة والدمار في غزة.
التحول الأول الذي أثار الانتباه في هذا المسار تمثل في قرارات عدة دول غربية – لطالما كانت رأس حربة في دعم إسرائيل سياسياً وعسكرياً – بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطين. خطوة وُصفت في بعض الأوساط بأنها “تاريخية”، وجاءت بعد أكثر من عامين من الحرب المفتوحة وسقوط آلاف الضحايا المدنيين في القطاع.
لكن القراءة المتأنية تكشف أن هذا الاعتراف لا يعكس تبدلًا حقيقيًا في جوهر الموقف الغربي بقدر ما يشكل محاولة لاحتواء الغضب الشعبي العارم الذي اجتاح العواصم الأوروبية والأميركية. فالمقصود منه ليس دفع العملية السياسية قدمًا، بل تقديم صورة “أخلاقية” زائفة عن الغرب، تسمح لحكوماته بإظهار نفسها كقوى “متوازنة” تسعى إلى حل الدولتين، بدلًا من أن تبقى متهمة بالتواطؤ مع آلة الحرب الإسرائيلية.
هذه الخطوة المحسوبة، إذن، ليست سوى صمام أمان مؤقت لتهدئة الشارع وتخفيف الضغط السياسي، وإعادة توجيه النقاش العام بعيدًا عن المطالب الجذرية بوقف فوري وغير مشروط للعدوان ومحاسبة المسؤولين عنه.
المرحلة التالية من هذه الخطة تتجسد في ما تسميه العواصم الغربية “مبادرات سلام” أو “مقترحات هدنة”، أبرزها المبادرة التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لكن خلف العناوين البراقة واللغة الدبلوماسية الملساء، تكمن وثائق ذات مضمون إسرائيلي صرف: ترتيبات أمنية تضمن السيطرة على القطاع، تفكيك القدرات العسكرية للمقاومة، فرض رقابة على المعابر والتمويل، وإعادة هندسة المشهد السياسي بما يخدم مصالح الاحتلال.
هذه المبادرات ليست مشاريع تسوية متكافئة، بل أقرب إلى وثائق استسلام تملي شروط المنتصر وتطالب الطرف المهزوم بالتخلي عن جوهر قضيته مقابل وعود غامضة بـ”السلام” و”إعادة الإعمار”. وهي بذلك تضع حماس أمام معادلة مستحيلة: القبول يعني الانقلاب على مبادئها وأسباب وجودها، والرفض يعني الوقوع في الفخ السياسي المعد سلفًا.
هنا تحديدًا يتضح الهدف المركزي من هذه المناورة. فبمجرد أن تعلن حماس رفضها لشروط غير قابلة للتحقيق أو القبول، تبدأ حملة منظمة في العواصم الغربية والعربية لتصويرها بوصفها الطرف الذي يعرقل “السلام” ويصر على استمرار إراقة الدماء.
ويُعاد توجيه السردية بالكامل: إسرائيل تصبح طرفًا “مرنًا” قدم مقترحات، والغرب يظهر كوسيط “عادل” حاول إنهاء الحرب، بينما تُشيطن المقاومة بوصفها السبب الوحيد لبقاء المأساة.
العبارة التي بدأت دولٌ غربية وعربية وإسلامية في الترويج لها – “الكرة الآن في ملعب حماس” – ليست مجرد توصيف، بل أداة اتهام مبطّنة. فهي تُستخدم لإعفاء الغرب من تبعات صمته الطويل، وتبرير تقاعسه عن اتخاذ إجراءات رادعة بحق إسرائيل، عبر الإيحاء بأن الحكومات المعنية “أدّت ما عليها” وقدّمت “خطة سلام” متكاملة، وأن المشكلة تكمن في “تعنّت” الطرف الفلسطيني.
بهذه الطريقة، يسعى الغرب إلى إعادة ضبط معادلة المسؤولية في الوعي العام، وإراحة ضميره الجمعي من عبء التواطؤ. فلا حاجة بعد الآن للحديث عن جرائم الحرب أو الحصار أو الانتهاكات، إذ يمكن تحويل النقاش نحو “فرصة السلام المهدورة” التي رفضتها حماس.
والأهم أن هذا التحول في الخطاب يمنح الحكومات مساحة أكبر لمواصلة سياساتها الداعمة لإسرائيل من دون أن تخسر شرعيتها الداخلية أو تواجه ضغوطًا متزايدة من الشارع.
لكن نجاح هذه الاستراتيجية ليس مضمونًا بالكامل، إذ يواجهها واقع متغير في الرأي العام الغربي نفسه. فالملايين الذين خرجوا في مظاهرات حاشدة، وحملات المقاطعة التي تضرب قطاعات اقتصادية وثقافية، والانتشار الواسع للإعلام البديل الذي يكشف سرديات مغايرة للرواية الرسمية – كلها مؤشرات على أن الوعي الشعبي في الغرب بدأ يتجاوز الخطاب الرسمي التقليدي.
لقد أدى سيل الصور القادمة من غزة، وحجم المأساة الإنسانية، إلى خلخلة عميقة في بنية الرأي العام الغربي. أجيال جديدة من الناشطين والطلبة والصحافيين باتت أكثر قدرة على ربط الخطاب الرسمي بالمصالح الجيوسياسية، وأكثر حساسية تجاه محاولات التلاعب بالوعي.
هذا الوعي المتنامي يجعل من مهمة الحكومات الغربية في قلب السردية أصعب مما كانت عليه في السابق، لكنه لا يلغي قدرتها على المناورة وإعادة إنتاج خطابها بطرق أكثر نعومة وتأثيرًا.
في المحصلة، تبدو المعركة على السردية – مثلها مثل المعركة على الأرض – مفتوحة على كل الاحتمالات. وهي معركة لن تُحسم فقط في قاعات السياسة ولا في ميادين القتال، بل في عقول الشعوب وضمائرها.
ما يُقدَّم اليوم في الغرب على أنه “تحول” في الموقف تجاه القضية الفلسطينية ليس سوى إعادة تموضع تكتيكية في سياق حربٍ أوسع على الوعي. فبدل أن يُسأل الطرف الذي يفرض الحصار ويشنّ الحرب عن جرائمه، يُطلب من الطرف المحاصَر والمُهاجَم أن يوقّع على شروط من اعتدى عليه، وإلا صار هو المذنب الأوحد في نظر العالم.
إنها محاولة مكشوفة لتبييض صورة الغرب وإعفائه من المسؤولية الأخلاقية والسياسية، لكنها في الوقت نفسه اختبار لقدرة الشعوب الغربية على تجاوز المناورات الدعائية والتمسك بجوهر الحقيقة: أن جذور المأساة في غزة ليست في موقف المقاومة من “مبادرة” أو “هدنة”، بل في نظام احتلال يرفض إنهاء سيطرته ويواصل حربه بلا كوابح.