إلياس المرّ-خاصّ الأفضل نيوز
منذ اندلاع حرب غزة في خريف 2023، تكثفت المبادرات الدولية بحثًا عن مخرج يعيد الهدوء ويوقف النزيف الإنساني. غير أنّ ما ميّز خطة دونالد ترامب الأخيرة أنها جاءت في صورة متكاملة، صيغت في عشرين بندًا، ووضعت تصورًا إداريًا غير مسبوق عبر إنشاء مجلس حكم انتقالي يُعرف بـ Board of Peace، برئاسة ترامب وعضوية شخصيات دولية أبرزها توني بلير. هذه الصيغة لم تعد مجرد مقترح تفاوضي كما كان الأمر في “صفقة القرن”، بل محاولة لإعادة هندسة المشهد الغزّي من الجذور، بوساطة مزيج من الأمن والإعمار والسياسة.
الفلسفة الكامنة وراء الخطة تقوم على ثلاثة محاور أساسية تتداخل وتتشابك: أمن إسرائيل عبر نزع سلاح حماس وتفكيك بنيتها العسكرية، معالجة الكارثة الإنسانية بوقف إطلاق النار وتدفق المساعدات، ثم بناء إدارة انتقالية فوقية تُدار بآليات دولية تضع الفلسطينيين أمام أمر واقع جديد. المشهد هنا لا يختلف كثيرًا عما شهده العراق بعد 2003 حين أنشأت واشنطن سلطة الائتلاف المؤقتة، أو ما جرى في كوسوفو حيث تولّت الأمم المتحدة الإشراف المباشر على المؤسسات. في كلتا الحالتين، كانت النتيجة التباسًا في الشرعية بين ما يريده الخارج وما يطمح إليه الداخل.
توني بلير
اختيار توني بلير ليكون شريكًا في هذا المجلس لم يأتِ من فراغ. فهو شخصية خبرت ملفات الشرق الأوسط منذ تولّيه منصب مبعوث اللجنة الرباعية عقب انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، غير أنّ تجربته السابقة لم تُسفر عن اختراق حقيقي. هنا يعود السؤال: هل يمثل وجوده عنصر خبرة يُضاف إلى الخطة، أم أنّه يعيد إلى الذاكرة سجلًا من المحاولات الفاشلة التي تركت الفلسطينيين أكثر تشكيكًا في نوايا الوسطاء الدوليين؟
في المستوى السياسي
تعكس الخطة ميلًا إلى تجاوز الانقسام الفلسطيني عبر طرح “إدارة تكنوقراطية غير سياسية”، لكنها بذلك تفتح الباب على إقصاء الفصائل، ما قد يفضي إلى إعادة إنتاج مقاومة مسلّحة خارج الأطر الرسمية ؛ فالتجربة التاريخية تثبت أنّ كل محاولة لإلغاء الفاعل المحلي تنتهي بظهور فاعل آخر أكثر تشددًا، كما حدث حين حاولت إسرائيل إضعاف منظمة التحرير في الثمانينات، فبرزت قوى بديلة أكثر صلابة.
من زاوية استراتيجية
تحمل الخطة بعدًا يتجاوز غزة نفسها. إذ إنّ جعل القطاع منطقة “منزوعة التطرف” لا ينفصل عن الرؤية الأميركية-الإسرائيلية لشرق أوسط جديد تُدار فيه الأزمات بأدوات فوق وطنية. إنها مقاربة تذكّر بتجارب دولية سابقة، من البوسنة إلى تيمور الشرقية، حيث تحوّلت بعثات الوصاية إلى مختبرات لإدارة النزاعات. لكن الفارق أن غزة ليست جزيرة نائية، بل بؤرة صراع مركزي يمس جوهر القضية الفلسطينية، ما يجعل أي محاولة لإخراجها من معادلة السيادة الوطنية محفوفة بالمخاطر.
المنظور والمضمور
الأهداف المعلنة للخطة تبدو براقة: إعادة الإعمار، ضمان تدفق المساعدات، إنهاء الحصار، تهيئة أرضية لسلطة فلسطينية “مُصلحة”. غير أنّ خلف هذه الوعود تكمن معضلة الشرعية. فأي إدارة لا تنبثق من الداخل الفلسطيني سيُنظر إليها باعتبارها وصاية، وأي وصاية تُذكّر بالتجارب المريرة التي عاشتها المنطقة تحت الاحتلال المباشر أو غير المباشر. التجربة العراقية أوضح شاهد على ذلك: ملايين الدولارات أنفقت على إعادة الإعمار، لكن غياب الشرعية الشعبية حوّل المشاريع إلى عبء بدل أن تكون رافعة.
من الناحية الإقليمية، تراهن الخطة على قبول عربي متردد. بعض العواصم قد ترى فيها مخرجًا مؤقتًا يوقف النزيف الإنساني، لكن عواصم أخرى ستعتبرها خطيرة لأنها تؤسس لسابقة تتجاوز حق تقرير المصير. أما إسرائيل فتتعامل معها ببراغماتية واضحة: الحصول على ضمانات أمنية عبر نزع سلاح حماس، مقابل غضّ النظر عن الإدارة الدولية المؤقتة.
هنا يبرز جوهر التناقض: فهي خطة تحمل وعودًا بوقف الحرب وإعادة الإعمار، لكنها في الوقت ذاته تهدد بتكريس وصاية دولية قد تُقصي الفلسطينيين عن دورهم المركزي. وقد يرى فيها البعض فرصة تاريخية لكسر حلقة الدم والحصار، بينما يعتبرها آخرون حلقة جديدة في مسلسل إدارة الصراع بدلًا من حله. والسؤال الذي يبقى معلقًا: هل يمكن لمجلس يقوده رئيس أميركي ورجل دولة بريطاني أن يمنح الفلسطينيين أفقًا سياسيًا مختلفًا، أم أنّ غزة ستتحول إلى ساحة اختبار جديدة لسياسات الإدارة الدولية؟ وهل يُكتب لهذه الخطة أن تفتح الباب أمام تسوية أوسع للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أم أنّها ستبقى مجرد جسر هش فوق هاوية، يُغري من بعيد لكنه يفتقر إلى قواعد راسخة على الأرض؟
الإجابة عن هذه الأسئلة لن تتحدد فقط في قاعات التفاوض أو مكاتب مجلس الحكم الانتقالي، بل على الأرض، حيث يمتزج الألم الإنساني بالإرادة الوطنية، وحيث يظل الشعب الفلسطيني صاحب الكلمة الفصل في تقرير مستقبله.