يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
في عصرِ الجاهليّة، وقبلَ أن يكرمَنا الله سبحانَه بالإسلام العظيم، كان الرجلُ إذا بلغَ الثمانين من عمره يسأمُ تكاليفَ الحياة، إما بسببِ الفراغ الروحيِّ الذي يعانيه، أو لشعوره بأنه غير منتج، وقد بات عبئاً على أولاده وعالةً على مجتمعه، فنرى الشاعرَ الجاهليَّ زهيرَ ابنَ أبي سُلمى يقول بلسان حاله: (سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومَن يعشْ
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم).
أما العظماء من الرجال فلا تُقاسُ أعمارُهم بالسنوات، وإنما بالإنجازات والمشاريع و الأفكار البنّاءة والمواقف المشرّفة. ومن هؤلاء الرجال أخي الكبير عبد الرحيم مراد الذي لا يشيخُ ولا يكلُّ ولا يتعب، بل تجدُ كلَّ مَن يعرفه ويعرفُ عن تفاصيل حياته اليوميةِ ونشاطاته من الصباحِ إلى المساء، يغبطه على شبابه الدائم وطاقاته المتجددة.
وبعد أن جالَ بالأمس على مؤسسات الغد الأفضل، وزارَ دارَ الحنان للأيتام متفقداً أحوالَها، وباعثاً في أبنائها وبناتها الأملَ بغدٍ أفضل، خطرت بباله فكرةٌ فقال للطلاب: (عندما تتخرجون من جامعتكم اللبنانية الدولية سنكون في خدمتكم وسوف تكون أعراسكم في ديوان القصر على نفقتي، فأنتم قرةُ عيني ،وأنتم بمثابة أولادي).
وفي الحقيقةِ يصعبُ الحديثُ عن هذا الرجل في مقال، وهو الذي أعطى لمجتمعه ووطنه وأمته من وقته وجهده وإمكاناته ما لم يعطه رجلٌ من السياسيين في بلادنا على الأقل، فقد كان استثنائياً ومتميزاً بحق؛ لأنه فهمَ مقاصدَ الدِّينِ حقَّ فهمها، وآمن بأنَّ العملَ عبادة، وبأنَّ التقربَ إلى الله سبحانه لا يكون بالصومِ والصلاةِ والزكاةِ والحجِّ فقط ( ولو كان ملتزماً بكلِّ ذلك والحمد لله)، وإنما بمنفعة الناس ومساعدة الفقراء ورعاية الأيتامِ وتحقيقِ الأمن الاجتماعيِّ للناس من حوله.
وأمَّا نهجُه العربيُّ الناصريُّ فقد ترجمَه كفكرٍ متجددٍ بعيد عن الجمود أو الركود، فكانت من نتاجه المدارسُ والمراكزُ التربوية والثقافية و الجامعات الرائدة التي لا تشكل إضافةَ كمية، بل إضافةَ نوعية، و كانت المشاريعُ التي تذيبُ الفوارقَ بين الطبقات، وتجعلُ العلمَ والعملَ في متناولِ الجميع وليس حكراً على "أبناء الذوات" فحسب.
لقد تعلمنا من هذا الرجلِ الكثيرَ الكثير، ولم تكن شعاراته التي أطلقها مجرَّدَ كلامٍ يقال، وإنما كانت تواكبُ كلَّ مشروعٍ أطلقه لكي نباهيَ به كناصريين أو كبقاعيين، وكان كلُّ شعار منها عنواناً لمرحلة نضاليةٍ جديدة، أذكر منها على سبيل المثال الآية الكريمة:
(إنَّ الله لا يغيّرُ ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وقوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى اللهُُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون)، وأذكرُ الحديثَ الشريف: (إنَّ اللهَ يُحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملاً أن يتقنَه)، وأذكر المثل الصيني الذي كان يردّده دائماً: (لا أريدُ ان تطعمني سمكاً، وإنما أريد أن تعلّمني صيدَ السمك).
وعبد الرحيم مراد الذي تعاطفَ مع القضية الفلسطينية باكراً، وكان عمره ستَّ سنواتٍ في عام النكبة حين أخبرته والدته أنَّ اللاجئين إلى بلدتهم من فلسطين هم إخوتنا وأهلنا و قد لجأوا إلى بلادنا بعد أن احتلَّ العدوُّ الصهيونيُّ بلادَهم وأذاقهم القهرَ والعذاب، كان المدافعَ الأشرسَ عن الفلسطينيين لا يميزُ بينهم وبين اللبنانيين في مؤسساته، لا بل كان يخصّهم باهتمام أكبر و عاطفة أشمل، حتى أنَّ النائب عاصم قانصو قد حدثني مرةً وقال: (كنا في اجتماعات الحركة الوطنية لا نحسب حساباً إلا لعبسة أبي حسين وغضبه إذا عارضنا أو انتقدنا أبا عمار حتى ولو كنا محقين في معارضتنا وانتقادنا).
لقد كان أبو حسين يباهي دائماً بأنه ابن فلاح بقاعيٍّ ويحبُّ الأرضَ والزرعَ و الإنتاج والكادحين من الناس، و حين قُدّر له أن يصلَ إلى رئاسة الحكومة اللبنانية رفضَ شروط (لارسن) وإملاءاته، فتدخلت السفاراتُ الأجنبيةُ لإبعاده عن هذا الموقع المتقدم، ولكنه لم يأبه لذلك ولم يحزن، لأنه لا يمكن أن يمالئَ السفارات فيما يخالف قناعاته كعربيٍّ ناصريٍّ وحدويٍّ مقاوم، وكان يقول لنا في كل أزمة وأمام كل نكران وجحود: (من لا يقدّر نضالنا اليوم سيقدره غداً..).
نعم لقد كان أبو حسين من القلائل الذين حافظوا على علاقاتٍ ودِّيةٍ مع العواصم العربية كلِّها في الشدائد والأزمات، وذلك من أجل تحقيق الحدِّ الأدنى من التضامن العربيّ، فكان يُستَقبلُ في دمشق والرياض والقاهرة وبغداد كضيف كبير يستحقُّ الاحترامَ والتقدير، وكان يلعب دورَ الوسيط، ويسعى إلى تقريب وجهات النظر بين هذه العواصم إيماناً منه بدورها التاريخيِّ العظيم على امتداد الحقب، وهذا الدور الكبير الذي قام به لا يقلُّ أهميةً عن المشاريع التي بناها وحركة العلم والمعرفة التي أرساها في لبنان وفي الوطن العربي الكبير ، ما دفعَ المناضلَ الناصريَّ الأخ عبد الملك المخلافي (وزير خارجية اليمن الشقيق فيما بعد)؛ لأن يقول لي في صيف العام 1995: (لقد كانت تجربة عبد الرحيم مراد هي الأكثر نجاحاً بين التجارب الناصرية, وما مردُّ ذلك إلا لصدقه في انتمائه وعناده في السعي إلى تحقيق أهدافه، وإننا كناصريين في اليمن، رغم اختلاف الظروف والقدرات، نعتبره عبد الناصر اللبناني).
وفي الختام، إذا كنا لا نستطيعُ أن ننصفَ الرجلَ بكلمات قليلة، فإننا نسألُ الله سبحانه أن يطيلَ بعمره، وأن يمدَّه بالصحة والعافية لكي يبقى فكرُه نبراساً ينيرُ الطريق أمام السّاعين إلى غدٍ أفضل...