محمد نجم الدّين _ خاصّ الأفضل نيوز
تعاقبت على البشرية صنوفٌ من المآسي والكوارثِ والحروب، كانت تنتهي بالعودة إلى التفاهمِ على استمرار الحياة، وفقًا لقواعد تحفظُ استمرارَ انتظامِ دورة الحياة، وتعزِّزُ قيمةَ الإنسان، ونشأت لأجلِ ذلك منظماتٌ دوليةٌ ومؤسّساتٌ تُعنى بالمجتمع والإنسان فيه٠
لكنَّ الجشعَ وذهنيةَ التّسلّطِ أوهمتِ الأقوياءَ بأنَّ السّيطرةَ على قرار الشعوب يسهّلُ عليها سرقةَ ثرواتها، وسلبَ أحلامِها بالتقدم، ونجمَ عن ذلك جرائمُ بحقِّ ملايين البشر على مساحة العالم من أفريقيا إلى شرقنا العربيِّ وغربه. ولئن تنوعت أساليبُ الغرب في السّيطرة على مقدراتِ الشعوب، مرةً بالحروب والعدوان والخداع، ومرات عبر خرائطَ ومشاريعَ تخدمُ أهدافها في إضعاف، بل الغاء كلّ أحلام الشعوب بإمكانية الإفلات من كماشة الجلاد، لكن أخطرَ ما شهدناه في عصرنا الحاضر هو وعدُ بلفور الذي أطلقه وزيرُ خارجية بريطانيا منذ أكثر من قرن بإعطاءِ اليهود أرضَ فلسطين لإقامة دولتهم عليها، وبدأ تنفيذه تدريجيًا حتى استطاع الإيفاء به بعد طردِ أبناء فلسطين بالقوة والإرهاب من أرضهم، واستحضار شعبٍ آخرَ من أصقاع الأرض لا يعرف فلسطين وليس له فيها شجرة أو حجر أو رفات أب أو جدٍّ أو جدِّ جدّ، وأسّس دولةً تقوم على الإرهاب معززةً بدعمٍ عالميٍّ غير محدود؛ لتبقى لها الغلبةُ على كلِّ الدول العربية ٠
وأكثر من أدركَ البعدَ الخطيرَ لوعد بلفور كان الزعيم العربيُّ جمال عبد الناصر الذي اختصرَ كلَّ أدبيات الصراع بجملته الشهيرة "ما أُخذَ بالقوة لا يُستردُّ إلا بالقوة"، وأصبحَ هذا الشعارُ نبراسًا لكلِّ حركاتِ المقاومة ضدَّ المشروع الصهيونيّ.
بلفور أعطى "من كيس غيره" ليفتِّتَ الوطنَ العربيَّ جغرافيًّا، وزرع فيه جرثومةً يصعبُ علاجها بالمضاداتِ الحيوية؛ لأنها تعيدُ تشكيلَ نفسها بشكلٍ أخطر ،خصوصًا في جسدٍ أنهكه الاستعمار، بل يجب اجتثاثها٠
لوعد بلفور الكذب والعدوان من الواعد والموعود، ولنا من حقنا بأرضنا كامل الحقِّ في استخدام كلِّ مقوماتِ القوة لاسترجاع ما سُلِب منا، وذلك يكون بالعملِ على بناء مؤسّسات إنتاج علميٍّ وثقافيٍّ وصناعيٍّ وغيرها لنكتفي أولًا من خبز أرضنا ثمَّ نعزز قوتنا بالعلم والمعرفة طالما الإرادة صلبة ولو كانت عند القليل٠
ولن نبلغَ ذلك دون صناعةِ الوعي الذي هو أمضى سلاح للمواجهة، خصوصًا مع قدراتِ الأعداء الهائلة على تزوير حقائق التاريخ والجغرافيا، وشراء الذمم والتهويل٠ الوعي تصنعه العقولُ المنفتحةُ ويرسِّخه الإيمانُ بأنَّ الحقَّ أقوى دائمًا٠