ممتاز سليمان - خاصّ الأفضل نيوز
استمرتِ الحربُ الأهليةُ اللبنانية قرابةَ الخمسةَ عشر عامًا، فكانت مأيمة ذهبت بخيرةِ شباب البلد الذين استحالوا وقودًا في أتونها، فبلغَ عددُ ضحاياها مايزيد على المايتي ألف.
في الديمقراطيات الغربية في أميركا وأوروبا، شهدت بلادها حروبًا أهليةً وطائفيةً وثوراتٍ على الفساد، استمرت سنوات انتهت بتسويات ودساتير عبرت خلالها نحو دول رائدها القانون وتحكمها المؤسسات.
صحيحٌ أنَّ اتفاقَ الطائف ذا البعدِ الإقليميِّ أنهى الحرب الأهلية في لبنان، كما ذكرنا في مقال سابق، ولكنَّ السؤالَ المحوريَّ المطروحَ بعد ثلاثةِ عقودٍ على توقيعه: هل طُبِّقَ الاتفاقُ فعلًا؟!
الجواب هو لا ، فبعدَ سنواتٍ قليلة على إقرار الاتفاق بدأت تتبلورُ ملامحُ منظومةٍ موازية تعتمدُ على بعض زعماء الطوائف والأحزاب المذهبية، فتشكلت مداميكُ صلبةٌ لدولة عميقة تحكمت بمفاصل البلد والعباد، بدءًا بالترويكا في عهد الرئيس الهراوي، مرورًا بسائر العهود والحقبات السياسية، واستشرت بعد الخروج السوريِّ من لبنان حيث حيدت المؤسسات الدستورية وعلقت سيادة القانون، ليحلَّ محلها ما سُمِّيَ بالتوافق.. التوافق ولا شيء غير التوافق.. هذه الكلمة التي أصبحت سمةَ السياسة اللبنانية، كلمة دمرت دولة من أسّها، فأصبحت المؤسسات هياكلَ خاويةً لعرض مسرحيات التوافق السوداوية.
فعكس كل ما يتمُّ في سائر الدول حيث الحد الأدنى من مفهوم الدولة، حيث تصنع السياسية وقراراتها ضمن المؤسسات، اعتمد الساسة اللبنانيون دستور التوافق وطاولات الحوار، فكلُّ قرار في الدولة بدءًا من تعيين مأمور أحراج، حتى انتخاب رئيس جمهورية للبلاد، لا يمكن أن يتمَّ دون اعتماد التوافق.
في الشأن الاقتصاديِّ التوافقُ سيدُ الموقف وهو المعطل الأساس لأي إصلاح أو تقدم، فالكهرباء مثلا ً التي استنزفت ما يربو على أربعين مليار دولار أميركي، لم ولن يتمَّ إيجاد حلٍّ لها طالما لا توافق بين مختلف الأطراف السياسية المعنية، كما أن تعيين موظفي فئة أولى من مديرين عامين وما يعادلهم يتعطل سنوات وتمتلئ الإدارة بموظفي التكليف والإنابة لسنوات بسبب انتفاء التوافق على سلة تعيينات، حتى أنك لتجدنَّ رئيس قلم في محكمة في أقاصي البلاد يمارس مهامه بالتكليف منذ أكثر من عقد ونصف لأن لا توافق على تعيين أصيل من ضمن سلة توافقية.
مؤخرًا تشهد البلادُ ما اصطلح على تسميته بالعروض الهزلية التي تنطوي على كوميديا سوداء تتخذ من قاعة المجلس النيابيِّ مسرحًا لها، بحيث يتمُّ من خلالها الإمعان بطعن الدستور وهتكه، بحيث تعمدُ كلُّ مجموعة أو تكتل إلى تسمية شخصٍ ما أو عنوان ما، أو وضع ورقة بيضاء..!!
يقال: إنَّ المشرّع لدى سنّه القوانين يفترض حسن النية لدى من سيطبق التشريعات، ولكن بالتأكيد لم يخطر على بال أيِّ مشرّعٍ في التاريخ أنَّ تعطيلَ انتخاب رأس الدولة سيكون بتلك الطريقة الوقحة الخارجة على المألوف بعيدًا عن نصوص الدستور الواضحة وضوح الشمس.
ينصُّ الدستور اللبنانيُّ على أنه لدى خلوِّ سُدَّةِ الرئاسة يتحولُ المجلس النيابيُّ إلى هيئة تشريعية، وهذا حثٌّ وتأكيدٌ على أهمية وضرورة العجلة في الانكباب على انتخاب رئيس جديد بغيةَ استقامة عمل المؤسسات الدستورية.
وبما أنَّ الأمرَ يفترض بالنواب سواء المنضوين في كتل أو المستقلين أن يعمدوا وببساطة إلى طرح أسماء من يؤمنون بأنَّ لديهم القدرة على تبوء هذا المنصب، وأن تبقى قاعة المجلس مقفلة عليهم حتى انتخاب رئيس ، لا أن يعمد إلى الإستعانة بالهرطقة المستجدة وهي تطيير النصاب، وهو إساءة كبرى في استعمال السلطة وتعسف، بحيث يصبح النائب أقوى من أي مرجع أو مركز في الدولة متى تصرف على هواه.
فانطلاقًا من مبدأ حسن النية الحسنة والتطبيق السليم للدستور ينبغي على النواب أن ينبروا دون تأخير إلى ممارسة العملية الديمقراطية لناحية انتخاب رئيس للجمهورية بعيدا من بدعة التوافق ومن ينادي بها لا سيما رئيس المجلس النيابيِّ الذي صرح في إحدى الجلسات بأنه طالما لم يحصل توافق لن يتمَّ التوصل إلى انتخاب رئيس وهذا مجانب ومخالف للدستور وروحيته والمؤسسات وعملها التي تستحيل عندها مسارح لإخراج صفقات واتفاقيات السلطة العميقة.
ما حصل ويحل على المشهد السياسي اللبناني منذ العام ٢٠٠٥ هو نتاج لعنة التوافق التي حلت على البلاد والعباد، ففتكت بالإثنين معا وأوصلت إلى ما نحن فيه من انهيار وسقوط بانتظار الارتطام الكبير.