يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
منذُ أن تفتحت أعيننا على الحياة في لبنان، ونحن نرى تجاوزاتٍ بحقِّ الطيورِ المهاجرة والبهائمِ والحيوانات الأليفة والمسالمة دونَ حسيبٍ أو رقيب، ودون وجود نصوص قانونية تُجَرِّمُ هذه الأفعالَ وتعاقب عليها.
وفي ظلِّ غياب النصوصِ القانونية التي تمنعُ وتردع، وغيابِ ملاحقة الدولة والبلديات للمخالفين "المجرمين"، تتكررُ الاعتداءاتُ الوحشية على البيئة أولاً من خلال الصيد الجائر وقطع الأشجار، وتتنامى نزعةُ الشرِّ في النفوس البشرية التي فطرَها الله على محبةِ الخير للناس ولسائر المخلوقات، ولا سيما تلك الضعيفة والأليفة منها، التي لا تؤذي ولا تضرّ، لا بل إنها تنفعُ في التوازن البيئيِّ الذي يصبُّ في خدمة الإنسان ويحققُ عيشه الرغيد.
وليسمحْ لي أصحابُ الرشاشات الحربية غير المرخصة اليوم، التي لم تطلقْ طلقةً واحدةً على العدوِّ المحتلِّ لأرضنا من أجل إثبات الرجولة والبطولة، أن أبيّنَ في هذا المقال حقيقةَ العقدةِ النفسية التي يعانونها، ونزعة الشر الخفيّة التي تعتريهم، وموقف الشرع الحنيف من فعالهم الخبيثة، لعلَّ في هذه الصرخةِ فائدة ومنفعة، إن لم تكن لهم فللجهات المسؤولة من دولةٍ وبلدياتٍ وجمعياتٍ وللناشطين في الدفاع عن سلامة البيئة، وعن مخلوقات الله الضعيفة التي تهرب من الوحوش لتستجيرَ بالإنسان ظنًّا منها أنَّ إنسانيته ونبذه للتوحش والافتراس تكفي من أجل حمايتها.
فعلى المستوى النفسيّ، يؤكدُ العارفون في مجال علم النفس البشريِّ أنَّ من يحمل السلاح في غير دار الحرب ويستعرض به أمام الناس المسالمين، ومن يطلق النار في المناسبات، أو يعتدي على الطيور والحيوانات الضعيفة؛ إنما يعاني من عقدة نقصٍ في الرجولة، ويحاولُ تعويضها بهذه الأفعال الجرمية ليظهر أمام الناس بصورة الرجل البطل، وهو لا يدرك أن الرجولةَ تكمن في القلب والعقل، وأنها فكرٌ وحكمةٌ وسلوكٌ بالدرجة الأولى.
ومع إطلالة شهر أيلول من كلِّ عام، تمرُّ الطيور المهاجرةُ فوق بقاعنا العزيز، وهي تقصدُ المناطقَ الدافئةَ فنسمع أصوات الرصاص تنطلق من فوهات بنادق "القبضايات" فتقتلها أو تصيبها بالجراح فقط لأجل إرضاء الغرور والغرائز والشهوات؛ لأنَّ لحومها لا تؤكلُ وريشها لا تصنعُ منه الأثواب.
وقد ظهرت في الفترة الأخيرة ظاهرةُ الاعتداءِ بإطلاق النار على الكلاب الشاردة فقط؛ لأنَّ صوتَ نباحها يزعجهم في الليل، وهذه الكلابُ المسكينة لا تدركُ ذلك حين تسعى لتحصيل قوتها بين البيوت بعد غلاء أسعار اللحوم، وانعدامِ رمي العظام في البراري (وهذه الحقيقة قد عرفتها يوم أمس حين قصدت أحد الجزارين لإحضار العظام لكلبٍ شاردٍ جريحٍ قد استجار بي، فأخبرني الجزارُ بأنهم يبيعون العظامَ لتدفئة المنازل في القرى الجبلية)، وهم أيضًا لا يدركون بأنَّ حالَ الكلاب الشاردة في لبنان ليست أفضلَ من حال المواطنين اللبنانيين.
وعلى المستوى الدينيّ، كيف ينظرُ الشرعُ الإسلاميُّ الحنيف إلى هذه الاعتداءاتِ المشينة؟
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطشُ، وجد بئرًا، فنزل فيها فشَرِبَ، ثمَّ خرج فإذا كلبٌ يلهثُ، يأكلُ الثَّرَى من العَطشِ، فقال الرَّجلُ: لقد بلَغَ هذا الكلبُ من العطشِ مثلَ الذي كان قد بلَغَ منِّي، فنزل البئرَ فملأ خُفَّه ماءً، ثم أمْسكَه بفِيه، حتَّى رَقَى فسَقَى الكلبَ، فشَكَرَ له، فغَفَرَ الله له» قالوا: يا رسولَ اللهِ إنَّ لنا في البهائمِ أجرًا؟ فقال: «في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ».
وقد صحّ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قوله: (لا تقصُّوا نواصيَ الخيل، ولا معارفها، ولا أذنابها فإن أذنابها مذابّها، ومعارفها دفاؤها، ونواصيها معقودٌ فيها الخير )، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ اللهَ كتب الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحِدَّ أحدُكم شفرتَه، وليُرِح ذبيحتَه)، ونهى عليه الصلاة والسلام عن حبس الحيوان دون طعامٍ أو شرابٍ حتى الموت، أو أن يُتّخذ الحيوان هدفاً للرماية، فقال صلى الله عليه وسلم: (عُذّبتِ امرأةٌ في هرّة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها، ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكلُ من خشاش الأرض).
وهذا غيضٌ من فيض الأحاديث النبوية الشريفة التي نهت عن تعذيب ذات الكبد الرطبة (أي المخلوقات الحية) التي لا يتسعُ المجالُ لذكرها والإحاطة بها أو الاستفاضة في الحديث عنها ، فلا يعذبُ بالنار إلا ربُّ النار يا أيها المؤمنون!...
وفي الختام، نتوجه إلى المجلسِ النيابيِّ الكريم لسنّ القوانين الإضافية المناسبة، وتطوير القوانين المرعية الإجراء أو المعمول بها وعصرنتها، كما نتوجه إلى أجهزة الرقابة والمحاسبة في الدولة وإلى البلديات والأحزاب والجمعيات وسائر مؤسسات المجتمع المدنيّ، ونتوجه إلى العلماء الأجلّاء وقادة الرأي والفكر في مجتمعنا اللبنانيِّ من أجل تعميم ثقافة الرحمة بمخلوقات الله، وندعوهم إلى القيام بدورهم الإنسانيِّ الذي كلّفهم اللهُ به ثمَّ نقول لهم: (ارحموا من في الأرض وما في الأرض يرحمكم من في السماء).