يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
تابعنا بألمٍ وحرقةٍ يوم أمس مراسمَ دفن الشاب وديع وسّوف، نجل الفنان الكبير جورج وسوف، ورغم أنّني لم أكن من هواة الطرب الذي يقدّمه ولا من متابعي أعماله الفنيّة، ولكنّني بكيتُ مثلما بكى كثيرٌ من أبناء أمتنا العربية أمام أبٍ مفجوعٍ ببكر أولاده يكبر في أعين الناس بإيمانه وقناعاته وقيمه وخياراته،، فيغدو بحقٍّ سلطانَ المحبة والإنسانيّة أكثر من كونه سلطان الطرب كما يسمّونه، وذلك من خلال الرّسائل التي بعثها إلى الأمّة عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ.
وقد كانت الرّسالةُ الأولى في العبور بموكب الحزن والألم من لبنان إلى سورية، حيث انتقلَ الموكبُ من الأشرفيّة في بيروت إلى بلدة كفرون في محافظة طرطوس السّورية عابرًا الحدودَ بين البلدين يحدوه الحنين إلى مسقط الرّأس ومخبأ ذكريات الطّفولة وموئل الأوفياء العاشقين، وفي ذلك تأكيدٌ على أنّ الشّعب اللّبنانيّ والشّعب العربيّ السّوريَّ شعبٌ واحد لا تفرقه الحدودُ ولا المصالحُ والأهواء السّياسيّة، وقد صدق الشّاعر العربيّ حين قال:
(ونحن في الشّرق والفصحى بنو رحمٍ.. ونحن في الجرحِ والآلامِ إخوانُ).
وأمّا الرّسالةُ الأهمّ والأعظم التي وجّهها الفنان المفجوع فقد تمثّلت بوحدة الدين والإيمان، فجورج وسوف المسيحيّ الذي يقرأ القرآن ويحفظ الكثير من آياته طلب من أحد العلماء المسلمين أن يقرأ في كفرون ما تيسّر له من آيات القرآن الكريم في مأتم ولده، فكان له ما أراد، والجميلُ في المشهد أنّ الشّيخ كان يقرأ في سورة مريم وإلى جانبه كاهن، وفي ذلك دلالة على الفهم الحقيقيّ للدّين الواحد رغمَ تعدد الرسالات السّماويّة على اختلاف الأزمنة والعصور ، فإذا كان مصدرُ التّنوير واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، فكيف ينكر المنكرون أنّ الدّينَ عند الله واحد؟ وكيف يفرّقون بين رُسُله؟ والقرآنُ الكريمُ نزل على قلب النّبيّ العربيّ صلى الله عليه وسلم ليؤكّدَ هذا المفهوم في احتوائه تعاليمَ الرّسالتين المسيحيّة والموسوية، وفي دعوته الذين آمنوا إلى عبادة الله الواحد دون سواه، وفي مقاصده الإنسانيّة العظيمة:
(قل يا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألّا نعبدَ إلا اللهَ ولا نشركَ به شيئا).
والفنانُ الكبير هذا أكّدَ في مصابه الأليم أن الشّعبَ العربيّ السّوريَّ هو من أكثر شعوب الأرض فهمًا ووعيًا لمقاصد الدّين، وأضاء على حقيقةٍ لا نراها إلا في بلاد الشّام، حيث الإيمانُ بالله وكتبه ورسله لا يُترجَم إلا من خلال بناء الجسور بين أبناء الوطن الواحد والأمّة الواحدة، والسّعي إلى تحقيق المصالح الإنسانيّة والارتقاء بالإنسان إلى المكانة التي أرادها الله له مهما كان مذهبه أو طريقته في العبادة، فلا يكون التّقرّب إلى الله إلّا بما يرضى الله به، ولا يكون البُعدُ عن الله إلّا بما يغضبُ الله، ولذلك فإنَّ أهلَ الشام يدركون بأنّ الاقتتالَ الطائفيَّ والمذهبيَّ هو أبعد ما يكون عن الدّين.
وأمّا الرّسالةُ الثّالثةُ فكانت في طلب ابي وديع من أبناء قريته كفرون عدم إطلاق النّار للتّعبير عن حزنهم وألمهم على فقدان كريم وقف معهم في أحلك الظّروف وساعدهم، والاكتفاء بذرف الدّموع وإشعال الشّموع، وهذا الموقفُ أيضًا هو موقفٌ عظيمٌ و يستحقُّ الاحترام والتّقدير، لا سيّما وأنَّ ظاهرة إطلاق النّار في المناسبات هي ظاهرةٌ سيّئةٌ تعمّ قرانا في لبنان وسورية، وتؤدي غالبًا إلى مزيد من المواجع والآلام، إلى جانب ما يحدثه ذلك من ترويعٍ للأطفال وأذيّة للنّاس في أرزاقهم وممتلكاتهم، وهذا الموقف يدل على رقيِّ صاحبه ويظهر حُسن أخلاقه، فكم زاد الحزن حزناً في المآتم؛ بسبب إصابة إنسانٍ برصاص طائش؟ وكم انقلب فرح إلى حزنٍ بقتل إنسان أو إعاقته في مناسبات الأعراس والنّجاحات بسبب السّلاح المتفلّت الذي يحمله من لا يحمل القيمَ والفضائلَ ولا الحكمةَ ولا رجاحةَ العقل.
رحم الله تعالى الفقيدَ الشابَّ وديع جورج وسوف، وأعان أهله وذويه على الصّبر من بعده، ولكن يقتضي الواجب الوطنيّ والقوميُّ والدينيُّ والإنسانيّ أن نقول لأبيه في هذه المناسبة: شكرًا جورج وسّوف.. شكرًا أيّها السّلطان.