ممتاز سليمان - خاصّ الأفضل نيوز
كالعادة عند كلِّ استحقاق أو حدث معين ينقسم الرأي العام اللبنانيُّ المسيس بطبيعته بين مؤيد ومعارض، وعادة ما يكون انقسامًا عاموديًّا يولد سجالات وخلافات لا تنتهي.
في الأيام القليلة الماضية ظهرت مادةٌ جديدة للتساجل والتقاذف، على خلفية زيارة الوفد القضائيِّ الأوروبيِّ إلى بيروت للاستماع إلى إفادات أشخاص معينين سلفًا على خلفية دعاوى فساد وتبييض أموال مقامة في عدد من تلك الدول كألمانيا وفرنسا ولوكسمبورع على حاكم مصرف لبنان وبعض الشخصيات المصرفية الأخرى.
على الفور برز الانقسام العاموديُّ بين من اعتبر أنَّ الزيارة تحمل في طياتها انتهاكا خطيرًا لسيادة الدولة اللبنانية وتشكل نوعا من الوصاية القضائية على القضاء اللبناني والبلد ككل.
في حين اعتبر آخرون أن الزيارةَ عاديةٌ وضمن الأطر القانونية سيما وأنها أتت على خلفية عدم توصل القضاء اللبنانيِّ إلى أي نتيجة في الدعاوى القضائية المقامة في لبنان ضدَّ حاكم مصرف لبنان، وغيره، كحال كثير من الدعاوى التي لا تصل إلى خواتيمها على خلفية التدخل السياسيِّ الفاضح في القضاء والذي تناولناه في مقال سابق حيث رست في البلاد ثقافة الإفلات من العقاب.
ولكن ما هي حقيقةُ الأمر من الناحية القانونية الموضوعية؟
بدايةً لا بُدَّ من الانطلاق من حقيقة أنَّ لبنان كان أحد الدول المؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة في أربعينيات القرن الماضي، وكان سباقا في الانضمام إلى الاتفاقيات والبروتوكولات العالمية التي تعنى بالتطور والتعاون الدولي على مختلف الصعد، على عكس كثير من الدول التي تحجم عن الانضمام إلى اتفاقيات أممية كي لا تكون عرضة لكشف نفسها أمام المجتمع الدولي في حالات معينة.
لم يكن لبنان يوما دولةً مارقة، بل كان سباقا في كلِّ مجالات التعاون الأممية.
إنطلاقًا من هنا فقد انضمَّ لبنان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي ظهرت في العام ٢٠٠٣، وصادق ووقع عليها لبنان في العام ٢٠٠٩ وأصبحت بالتالي ملزمة له.
تحتوي الاتفاقية على أربعة أبواب مقسمة على الشكل التالي :
الباب الأول يتناول سبل الوقاية والرقابة على قضايا الفساد.
الباب الثاني يتناول تجريم مرتكبي جرائم الفساد وضمان عدم إفلاتهم من العقاب.
الباب الثالث يتناول التعاون الدولي في قضايا الفساد بين الدول.
الباب الرابع ينصُّ على استرداد الأموال المتأتية عن جرائم الفساد.
إنَّ زيارةَ الوفد القضائيِّ الأوروبيِّ إلى لبنان تندرج ضمن الباب الثالث من الاتفاقية الدولية التي كما أشرنا إلى إلزامية بنودها للدولة اللبنانية، ما يعني عمليا أن لا اختراق للسيادة الوطنية ولا وصاية قضائية دولية على لبنان، بل تعاون قضائي ضمن إطار اتفاقية أممية، ترعاها أصول وتدابير دقيقة، حيث يستوجب حضور قاضٍ لبناني لجلسات التحقيق والذي يشرف كذلك على الملفِّ لناحية المستندات المسموح تصويرها من عدمها، وقد طبق القاضي اللبناني المكلف رجا حاموش هذه الأصول بحذافيرها مع الوفد الألماني لدى عدم سماحه بحضور رجال أمن ألمان جلسة الاستماع واقتصار الحضور على القضاة وطلبه أيضا وجوب تقديم طلب مسبق لتصوير مستندات معينة.
كلُّ هذا يعني أن لا افتئات ولا وصاية على الدولة اللبنانية أو حتى القضاء اللبناني.
وحبذا لو أن الغيورين على السيادة من الطبقة السياسية أقلعوا عن تدخلاتهم السافرة في عمل القضاء لوقف الملاحقة في أي قضية تعرض أمامه تتعلق بفساد عام بما يحول دون وصوله إلى خواتيم مرجوة، وحبذا أيضا لو أنَّ القضاء الوطنيَّ أخذ زمام المبادرة وتفلت من براثن التدخلات السياسية ومارس استقلاليته بمعزل عن أي معطى أو تدخل.