يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز.
تصادف اليوم الذكرى الخامسة بعد المئة لميلاد القائد المعلم جمال عبد الناصر، الذي ولد في 15 يناير/ كانون الثاني 1918 في قرية بني مر إحدى قرى محافظة أسيوط في مصر الشقيقة، وبعد أكثر من نصف قرن على رحيله لا تزالُ الأمة العربية تعتبره مثالاً للقائد القدوة والزعيم الملهم للثورة والتحرر والنهوض ، وتتوق إلى زمانه ومواقفه ومنجزاته، حين كانت الجماهير العربية تسمع صوت العرب من القاهرة وتستشعرُ عزتها وكرامتها في زمن الشموخ والإباء هذا.
وترتسمُ التساؤلاتُ في أذهان الناس : لماذا كانت الأمة ترتبط بعقلها وعاطفتها بهذا القائد؟ ولماذا تُرفع صوره وتترددُ كلماته في كلِّ حين؟ ولماذا يقيسون الرجولة بميزانه ،والمواقف والخيارات السياسية بمبادئه ومنطلقاته رغم اختلاف الظروف والمناخات وتبدل المحاور والسياسات المحلية والدولية؟ وما الذي يجعل الخصوم قبل الأنصار يقرّون بميزاته وخصاله القيادية ويحترمونه؟
لقد كان جمال عبد الناصر رجلاً كآلاف الرجال، وضابطاً في الجيش كمئات الضباط، ورئيساً للجمهورية كعشرات الرؤساء، ولكنه كان إنساناً صادقاً صالحاً مؤمناً وقوياً، إنساناً ينطلق من إنسانيته أولاً ويكافح من أجل خدمة الإنسان الذي كرّمه الله بالحرية ولم يرتضِ له العبودية ولأخيه الإنسان، فناضل من أجل تحقيق الغايات الإنسانية و القضاء على الفوارق الطبقية منذ أن أطلقَ صرخته الأولى بقوله : ( إرفع رأسك يا أخي لقد ولّى زمن الذل والعبودية)، وصولا إلى حقبة الستينات حين وزع سندات الملكية على الفلاحين، وحين جعل العمال شركاء في الإنتاج، وحين جعل التعليم في متناول الفقراء بعد أن كان حكراً على "أبناء الذوات "، وحين أطلق صرخته الثانية بقوله : ( لا يمكن للجائع الجاهل أن يكون حراً ومسؤولاً عن اختياراته).
لم يكن عبد الناصر مرتهناً للشرق أو للغرب، بل اختار أن يبني لبلده وأمته كياناً بين أمم الأرض ،وفي غمرة الصراع بين معسكرين كبيرين مدركاً لإمكانات أمته وقدراتها ومنطلقاً من حاجاتها وهادفاً إلى تحقيق مصالحها في معارك التحرر والاستقلال، فعاند قوى الاستعمار، وأصاب وأخطأ، وانتصر وهزم، ولكنه ظلَّ في نظر أحرار أمته والعالم القائد الملهم والزعيم المفدى، حتى قال عنه رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية : ( من الصعب جداً استمالة هذا الرئيس، فلا يوجد في حياته خمر ولا نساء ولا فساد ولا فضائح، ولا يمكن إغراؤه أو إغواؤه، إنه باختصار رجل بلا خطيئة) .
وبعد هزيمة مصر في يونيو / حزيران ١٩٦٧ وبعد أن تنحَّى عبد الناصر عن السلطة، انطلقت التظاهرات في القاهرة وفي العواصم العربية تطالب القائد المهزوم بالعودة عن قراره، وهذا ما جعل أعداءه يحارون ويتساءلون : كيف تطالب الجماهير بعودته بدل محاكمته؟ وما سرُّ هذه العلاقة بين القائد والجماهير؟ فيعود كما أمره الشعب لإزالة آثار العدوان واستنزاف العدو في حروب الفدائيين المشرّفة، ويطلق قبل ذلك في مؤتمر الخرطوم صرخته الثالثة التي لا تزال تدوي في مسامع التاريخ : ( لا صلح لا اعتراف لا تفاوض على أيِّ حقٍّ من حقوق الشعب الفلسطيني)، ومنذ ذلك الحين تخلى من تخلى من الضعفاء عن ثوابت الأمة وظلَّ الشعبُ الفلسطينيُّ يحفر في قلوب الأجيال وعلى جدران القدس والضفة والقطاع مقولته الخالدة : ( إنَّ ما أُخِذَ بالقوة لا يستردُّ بغير القوة).
رحم الله أبا خالد ولن تعقمَ الأمةُ العربيةُ عن إنجاب الصادقين المؤمنين الأبطال بعد رحيله، فكل أسير وكل جريح وكل شهيد قضى على دروب فلسطين هو في نظر أحرار الأمة وحرائرها رجل كجمال عبد الناصر.