يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
في منتصفِ القرن الماضي كتبَ الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي قصيدته الشهيرة التي قال في مطلعها :
( إثنان أعيا الدهرَ أن يبليهما :
لبنانُ والأملُ الذي لذَويهِ)، ثم ما لبث أن قال في منتصفها :
(لُبنانُ صُن كَنزَ العَزائِمِ وَاِقتَصِد
أَخشى مَعَ الإِسرافِ أَن تُفنيهِ
غَيري يَراهُ سِياسَةً وَطَوائِفاً
وَيَظَلُّ يَزعُمُ أَنَّهُ رائيهِ
وَيَروحُ مِن إِشفاقِهِ يَبكي لَهُ
لُبنانُ أَنتَ أَحَقُّ أَن تَبكيهِ)...
والأسئلةُ التي تَطرحُ نفسها اليوم : لماذا لم يتغير هاجسُ الخوف والقلق لدى الأحرار اللبنانيين منذ ذلك الحين؟ ولماذا تتوالى الأزماتُ الوجوديةُ التي تهدّد الكيانَ اللبنانيَّ برمّته؟ ولماذا ينجح اللبنانيون المغتربون في كلِّ أصقاع الأرض ويبرعون في شتى المجالات ولا يستطيعون ذلك في بلدهم؟
ولعلَّ الإجابةَ عن كلِّ سؤال يدركها كلُّ إنسان لبنانيٍّ ويعرف مكامن الخلل وأسباب الفشل والتخلف عن مجاراة العصر في بناء الدولة الحديثة ولكنه لا يستطيع التغيير ولا التطوير في نظامه حتى يبلغَ السيلُ الزبى.
فالخللُ واضحٌ وجليُّ لدى الجميع، وهو يكمن في النظام الطائفيِّ القائم على الفساد والمحسوبية والمحاصصة بالدرجة الأولى ،وقبل كلِّ شيء، وقد وصل اللبنانيون إلى هذه القناعة بعد انسداد الآفاق كلها، وبعد أن باتوا عاجزين عن انتخاب رئيس ،وتشكيل حكومة ،وتحرير قضاء ،وسداد ديون في ظلِّ انشغال الدول القريبة والبعيدة عن هموم اللبنانيين وشجونهم، وانعدام ثقة الجهات المانحة والمواطنين بالدولة ومؤسساتها ،وغياب المصلحة حتى وصل الجميع إلى قناعة مفادها أنَّ مساعدةَ اللبنانيين على الخروج من النفق المظلم الذي يقبعون فيه لا يمكن أن تتحققَ إلا إذا أراد اللبنانيون أنفسُهم ذلك.
ولعلَّ العوامل التي ساعدت على الانهيار السريع في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية كلها كثيرة ومن أهمها :
انشغالُ الدول بالحرب الروسية الأوكرانية حيث الخوف على المصالح الاستراتيجية في ألأدوار والموارد، وانفتاح كثير من العرب على إسرائيل ،وتطبيع العلاقات معها، وتحويل بوصلة العداء إلى غيرها من دول الجوار، وإقحام لبنان في سياسات المحاور، والحصار المطبق على سورية فيما يسمى بقانون قيصر من أجل تغيير النظام فيها أو تغيير سلوكه كما يقولون، ولكن أهم العوامل التي دفعت إلى الفشل والانهيار السريع هذا هو ذاتيٌّ وداخليٌّ ويكمن في غياب الانتماء الوطنيِّ الجامع وغياب الإرادة الوطنية التي تقوى على كلِّ التحديات ،أو بمعنى أوضح فإنها تتلخص بغياب رجالات الدولة الوطنيين الغيارى.
ورُبَّ قائلٍ يقول : " إنَّ لبنانَ ليس بلداً فقيراً ولكنه بلدٌ منهوب"، وهذه مقولةٌ صحيحةٌ لأنَّ لبنان بلدٌ غنيٌّ بموارده البشرية والطبيعية ولا يعاني إلا من سوء إدارة لهذه الموارد كما كان الحال في مصر قبيل ثورة يوليو عام 1952 وقبل أن يتمرَّدَ ضابطٌ فقير من بني مر يُسمى جمال عبد الناصر على الفساد والإقطاع وأطماع قوى الاستعمار، فهل من قبيل الصدفة أن يكون وضع لبنان المحاذي لفلسطين المحتلة والذي عاند الاحتلالَ منذ نشأته فقيراً رغم غناه ،وفاشلاً رغم دهاء شعبه وعطشانَ وهو عائم على بحر من الماء ،وملوثاً رغم نقائه وكثرة أشجاره وتنوع بيئاته ،ومدنساً رغمَ طهر الثلج الذي يغطي جباله؟ وهل لا يزال بعض القادة اللبنانيين يراهنون على تدخل قوى الاحتلال والاستقواء بهم على إخوانهم في الوطن وهم من أجل ذلك يغلّبون مصالحهم الشخصية على المصالح الوطنية ويخدمون بفسادهم وطائفيتهم أعداء الوطن؟
نعم لقد آن الأوانُ لأن يتحررَ الإنسانُ اللبنانيُّ من جهله وجاهليته، من عقدة الخوف التي تكمُّ فمَه وتقيّد ساعدَيه، ومن ذلّه وعبوديته حتى يكرَّ من جديد ويلحق بركب الحضارة والتقدم، فكما قال عنترةُ بن شداد : ( العبدُ لا يُحسنُ الكرَّ بل يُحسنُ الحلبَ والصرّ َ).