وفاء ناصر - خاصّ الأفضل نيوز
في غرفةٍ فارهةٍ تزنرها حرارة المحبة، التقت جاراتُ الرضى كعادتهن حول "ركوة" قهوة تعبقُ رائحتُها بأصالة عربية وتقليد مجتمعيٍّ مهدد بالتلاشي رويدا رويدا، بفعل قساوة الحياة المادية وأنانيتها.
جارات طوّعنَ أفرادَ أسرهن وفق نواياهن وحافظن على حسن الجوار رغم بعد المسافات، وأثبتن أنَّ العلاقةَ الجميلة لا يقلّصها البعدُ الجغرافيُّ بل يعمّقها ما دامت القلوب سليمة.
فالجاراتُ النادراتُ اللواتي يُضربُ بهنَّ المثلُ لسْن مجردَ نسوة يجمعهن فنجان قهوة سادة و"لقلقة" لسان، بل أخوات من أمهات وآباء مختلفين جمعهن القدر سويا ليكُنّ سندا -الواحدة للأخرى- مهما "مطّ" الحيِّزُ الجغرافيُّ الذي سبق أن احتواهن.
عندما نتطرّق إلى موضوع الجيران و"الجيرة"، عادةً ما نرفقه بعبارة "رزق الله على أيام زمان"، حين كان الجارُ هو الأخُ الذي يؤتمن على المنزل وناسه، والجارة بمثابة الأم الثانية. عندما كانت منازل الجيران مفتوحة على مصراعيها لا يوصد أبوابها إلا الموت، وموائدها غنية تفترشها أطباق الحيِّ رغم أنَّ الأنماط الغذائية لم تكن متوفرةً ومتنوعة،ولم يكن الحصول عليها سهلًا كما اليوم. أما عن "الأملية" فحدّث بلا حرج.
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ عوامل عديدةً ساهمت في إضعاف العلاقة الطيبة بين الجيران وأثّرت على قيمها التي اتخذت طابعًا عكسيًّا في بعض الأحيان، بحيث تحوّل الجار من المدافع عن جاره والمحافظ على أعراضه وأغراضه إلى لا مبالٍ تارةً، والى مصدر أذى وسوء لا حدود لشرِّهِ تارةً أخرى.تحوُّلٌ يتناقضُ بشكل كبير مع الموروث الشعبيِّ- الدينيِّ من جهة والأخلاق الإنسانية من جهة ثانية.
وكتفسيرٍ أوليٍّ جاهز وغب الطلب، نلقي بالمسؤولية على الحياة العصرية ونمطها السريع، الذي طال القرى والمدن على حدٍّ سواء، ونستتبعه بالواقع الصعب. واقع إن قاربناه لما سبق لوجدناه ذريعةً هشّة حوّلناها بسذاجتنا إلى شمّاعة للتهرّب من مسؤولياتنا المجتمعية والأخلاقية بحجة العنصر الماديِّ، والانخراط في لعبة الحداثة مع ما تحويه من عادات وأفكار قد تكون موجهةً بغية "فرط" التماسك الاجتماعيِّ الذي طالما ساهم في إرساء نوع من الرقابة الاجتماعية بشكل عفويّ.
وما الدعواتُ المتكررة مؤخرًا حول التعاضد والتكافل الاجتماعيَيْن إلا نسخةً منقّحةً عن أواصر الجيرة المرتكزة على التماسك والتعاون، والتلاحم والتكاتف، والإحسان والإخلاص وغيرها من القيم التي لو حافظنا عليها لتجاوزنا بأشواط ما نختبره حاليًّا من فتور في العلاقات مع ما يليه من تغيّرٍ في السلوكيات التي يغلبُ عليها طابعُ النفعية أولا وأخيرا.