د. علي ناصر ناصر _ خاصّ الأفضل نيوز
مقدمة
ينفذ الجيش الإسرائيلي منذ عملية طوفان الأقصى عملية قتل ممنهج للصحافيين الفلسطينيين في قطاع غزة، ودمر جميع المباني والمقرات الإعلامية وما تضمه من تجهيزات ومعدات تقنية ومواد إعلامية بالرغم من التصريحات العلنية للجيش الإسرائيلي "أنه لا يستهدف الصحفيين عمداً"، إلا أن ذلك التبرير يأتي ضمن عملية تستهدف الرأي العام الغربي الذي يتوجس السردية الإسرائيلية من جهة، والتبعات القانونية التي ستلحق بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية من جراء الإقرار بذلك من جهة ثانية.
تشكل عملية قتل الآخرين مهما كانت وظيفتهم سواءً ممرض، أو طبيب، أو مسعف، أو عامل إنقاذ، أو صحافي، وغيرهم من المهن الإنسانية التي يفترض أن تقدم خدماتها من دون تمييز وبشكل متجانس ومستمر للمجتمعات والأفراد الذين يتعرضون للمآسي والويلات أثناء الحروب والنزاعات المسلحة جريمة إنسانية يعاقب عليها القانون الدولي ويخضع مرتكبوها إلى محاكمة وفرض عقوبات عليهم. وتفترض الموضوعية عند الصحفيين بشكل خاص إلى تقديم حقيقة ما يجري من وقائع ونقل الأحداث كما تقع، وتوثيق كافة الأعمال الحربية ومجريات النزاع القائم. أكثر ما تخافه الصهيونية هي هذه المهن الإنسانية بالتحديد باعتبارها تمثل النقيض لبنيتها التكوينية ونقيض لطبيعة "دولة إسرائيل" الذي يشكل العنف والقتل عنصراً رئيسياً من عناصر تكوينها السياسي.
التعامل الإسرائيلي مع الصحافة
بلغ عدد الصحافيين والإعلاميين الذين قتلتهم إسرائيل في قطاع غزة 152 منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حتى الآن، ومقارنة بحروب فيتنام، أفغانستان، العراق، حتى الحربين العالميتين لم يسقط هذا العدد من الصحفيين في هذه الفترة القصيرة.
إضافة إلى ذلك اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 75 صحافياً وإعلامياً فلسطينياً، أطلقت سراح 25 منهم ولا تزال البقية في الاعتقال، ويخضع بعضهم للاعتقال الإداري وهو إجراء يسمح باستمرار الاعتقال من دون سقف زمني ومن دون توجيه اتهامات ومحاكمة بناءً على تقارير سرية ضمن عملية تقييد لحرية وحركة الصحافيين الفلسطينيين.
تمنع إسرائيل وسائل الإعلام الأجنبية من دخول قطاع غزة والتغطية المباشرة لما يقوم به جيشها هناك . وتعتمد هذه الوسائل في توثيق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ونقل مجرياتها على الصحفيين الفلسطينيين الذين يتعرضون لمخاطر جسيمة. هذا يعني أن المعاناة الإنسانية التي يتعرض لها أهالي غزة يوثقها الصحافي الفلسطيني الذي ينقل المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي غزة وسكانها المدنيين.
الأفعال الإسرائيلية في قطاع غزة
يستخدم الجيش الإسرائيلي القوة المفرطة في حربه على قطاع غزة بشكل غير متناسب وفق قانون الحرب، ولم يباشر إلى أخذ الاحتياطات المطلوبة من أجل حماية المدنيين وتقليل الخسائر والإصابات. والأعمال التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي اتجاه المدنيين الفلسطينيين ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب والمطلوب التعمية عليها وعدم نقلها إلى القضاء الدولي.
استخدم الجيش الإسرائيلي الفسفور الأبيض في قصفه مستشفيات قطاع غزة وهذه تشكل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني. قتلت إسرائيل عائلات بأكملها ومدنيين بشكل متعمد ولم تراعِ مبدأ "التمييز" في القانون الدولي الإنساني. ولم تسمح للمنظمات الإنسانية من الوصول إلى الجرحى وإغاثة المصابين كما يوجب القانون الدولي. استخدم الجيش الإسرائيلي أسلحة محظور استخدامها في المناطق المأهولة بالسكان. عمد الجيش الإسرائيلي إلى الاعتقالات لمئات الأشخاص بمن فيهم نساء وتعذيبهم وإهانتهم وتدل ظروف اعتقالهم على نية إحداث أكبر ضرر نفسي وجسدي بهم. دمرت إسرائيل بشكل ممنهج آبار المياه والمدارس والمستشفيات والمباني العامة ومنشآت الصرف الصحي ومراكز الإمدادات الغذائية. لقد وثقت الصحافة جميع هذه الأعمال وكان لها تأثير كبير على الرأي العام العالمي واعتمدت محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية على وثائق صحافية في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة من دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل.
حماية الصحفيين وفق القانون الدولي
ووفقاً لمؤتمر لاهاي لعام 1907 وحسب نص المادة 13 منه وفي معرض حماية الصحفيين تنص " أن الأشخاص الذين يرافقون القوات المسلحة وليسوا جزءًا منها هم مراسلون صحفيون".ووفقاً للمادة 81 من اتفاقية جنيف الثانية لعام 1929" أنه يجب معاملة الصحفي كأسير الحرب في حال اعتقاله من قبل قوات العدو". ويتمتع الصحافي في أثناء النزاعات المسلحة بالحماية ويخضع لنفس شروط حماية المدنيين وفقاً للمادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف 1949 من أجل حماية المدنيين.
التبعات القانونية لدولة الاحتلال
تمثل أفعال "دولة إسرائيل" ضرراً يلحق بالمجتمع الدولي، وخطأ بالتزامها الدولي، وكلاهما الخطأ والضرر يفترض تصحيحهما بسبب الفعل غير المشروع الذي ارتكبته من جراء قتلها المتعمد وملاحقتها للصحفيين واعتقالهم. ويحمّلها ذلك المسؤولية القانونية الدولية عن أفعالها التي انتهكت من خلالها موجبات القانون الدولي باعتبارها تقوم بالتعدي على حرية الصحافيين وتمنعهم من ممارسة مهنتهم المعترف بها دولياً.
وتبرير "دولة إسرائيل" أن قتلها الصحفيين غير مقصود وناتج عن ضرر جانبي يقع نتيجة ملاحقتها لمقاتلي حركة حماس، يتناقض هذا التبرير مع حجم الضرر حيث إن الضرر الجانبي التي تلحقه إسرائيل بالمدنيين وضمناً الصحافيين يفوق المزايا العسكرية التي تحققها وهذا انتهاك "لمبدأ التناسب". وفقاً لذلك تقدمت منظمة "مراسلون بلا حدود" بشكوى أمام المحكمة الجنائية الدولية في 27 أيار/مايو 2024 حول جرائم حرب ارتكبتها "دولة إسرائيل" ضد الفلسطينيين في قطاع غزة وارتكزت "المنظمة" في ذلك على قتل إسرائيل عدد من المراسلين الصحفيين في فترات سابقة، وطالبت المنظمة من مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية التحقيق بالأمر.
خطورة الدور الأمريكي
تلعب الصحافة دوراً بارزاً في إظهار حالة الهلع والخوف والمعاناة التي يتعرض لها مختلف الأفراد القاطنون في أماكن النزاعات المسلحة، ويعول عليها من أجل معرفة حقيقة ما يجري من أعمال عسكرية والأضرار التي تلحق بالمجتمع وبنيته المدنية وهي التي توثق الجرائم المرتكبة وعمليات القتل التي تجري والمواد التي تقدمها تستخدم وتعتمد من قبل المحكمة الجنائية الدولية. ووفقاً لهذا الدور يخشى الصحافة مجرمي الحرب من أفراد ومؤسسات ونظم سياسية وتعمل على التنكيل بهم وتخويف العاملين فيها وملاحقتهم.
يمثل قتل الصحفيين منهجية معتمدة لجأت إليها إسرائيل من عقود ومارستها في شكل مستمر في كافة حروبها وأخطرها مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة والرواية التي أطلقها الجيش الإسرائيلي للإفلات من المسؤولية متناقضة وغير مكتملة.
يمثل الموقف الأمريكي الخطر الأكبر على حرية الصحافة خلال الحروب وهو موقف متلون في أكثر صيغه عدالة حيث يطلق تقييمات غير مفهومة بطبيعتها ومفهومة بانحيازها التي تستخدم عبارات تحمل أكثر من معنى وتهدف إلى عدم إدانة "دولة إسرائيل" من دون اكتراث للرأي العام والنخب في العالم وليس الغرب فقط. من ناحية ثانية يقوم الاحتلال الصهيوني باستغلال هذه الحماية ويتمادى في ارتكاب المخالفات القانونية والجرائم بحق الصحفيين. وعلى قاعدة أن الخطأ يقود إلى خطأ لجأت الإدارة الأمريكية الحالية إلى التعمية على كافة التقارير التي تنتقد بشكل واسع جيش الاحتلال الإسرائيلي عبر وسائل الإعلام الغربية ومنع تأثيرها المحتمل على سمعة "دولة إسرائيل" مما انعكس على حرية الصحافة العامة وأدى إلى فقدان مصداقيتها ولجوء المواطنين إلى وسائل التواصل الاجتماعي من أجل معرفة حقيقة ما يجري، وبسبب تلك الحماية الأمريكية ترفض "دولة إسرائيل" حتى هذه اللحظة تقديم ضمانات لحماية الصحفيين في قطاع غزة.