علي ناصر - خاص الأفضل نيوز
موقع سوريا بالنسبة لروسيا وإيران
عندما انتصرت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 على نظام الشاه المؤيد لحلف الناتو، لم تترك وسيلة الولايات المتحدة إلا وحاولتها- ومنها التدخل العسكري- من أجل تقويض الثورة أو استيعابها، كانت تدرك الولايات المتحدة الخسارة الاستراتيجية التي لحقت بها، ولم تكن لتتحمل نتائجها على المدى البعيد خاصة عندما كان الصراع مع الاتحاد السوفياتي محتدماً. خلقت الولايات المتحدة سياقات متنوعة لتحجيم وحصر النفوذ الإيراني بالجغرافيا وجود الدولة نفسها لكنها كانت تدرك الموقع والدور لدولة بحجم إيران سواء بالنسبة للاتحاد السوفياتي ثم لروسيا، حيث الموقع يعطيها اليد العليا في منطقة الخليج العربي والتحكم بمضيق هرمز فأشعلت الحروب من حولها وحاصرتها بالقواعد العسكرية الأمريكية.
لكن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعاطت مع كل هذه المسائل بصبر وحنكة عالية تمكنت من إفشال المخططات الأمريكية التي تهدف إلى إسقاط النظام في إيران، وفي المقابل كانت تدرك أن القوة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تعتمد على الكيان الصهيوني فراحت تدعم جميع حركات المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً، وبذلك تُحقق أحد أبرز شعارات الثورة الإسلامية وتوجه ضربة للسياسة الأمريكية في المنطقة، وحتى تنفذ تلك الاستراتيجية خلقت اتصالاً مباشرًا لها مع المقاومة في كل من لبنان وفلسطين، وشكلت سوريا الجغرافيا التي من خلالها يتم التواصل ودعم قوى المقاومة خاصة المقاومة في لبنان. كانت سوريا أول دولة عربية تعترف بالجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 وثالث دولة في العالم تعترف بها بعد الاتحاد السوفياتي وباكستان وشكلت العلاقة بين البلدين تحالفًا استراتيجياً.
ورغم ثباته التاريخي في الصراع الدولي ضمن القوى المعادية للغرب إلا إنه وطوال فترة حكم الرئيس حافظ الأسد كان يدير السياسة الخارجية لسوريا في الإطار الدولي والإقليمي بحنكة وقدرة هائلة على المناورة والتكيف مع مختلف التطورات التي كانت تحصل في الإقليم وكانت سياسته خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 26 كانون الأول/ديسمبر 1991 حتى وفاته في 10 حزيران/يونيو 2000 تحمل تحديات دولية وإقليمية واستطاع التعامل معها والتكيف مع معطياتها. رغم سقوط الاتحاد السوفياتي الذي اعتبره الرئيس حافظ الأسد "أن العرب هم أول الخاسرين من انهيار الاتحاد السوفياتي" استطاع التعامل مع مختلف المستجدات الإقليمية التي نشأت بفعل السيطرة الأمريكية الأحادية على العالم. ولكن، ورغم الوهن والضعف الذي ورثته روسيا والذي بدوره انعكس على قوة روسيا الدولية وكان جزء منها التواجد العسكري الروسي في سوريا الذي همد لفترة ثم أعيد تفعيله في عام 2008 ضمن استراتيجة تقتضي مواجهة الغرب والولايات المتحدة.
إيران وفقدان المجال الحيوي
تتصارع في منطقة الشرق الأوسط ثلاث قوى رئيسية تركيا وإيران وإسرائيل، تسعى كل منها إلى تعزيز قوتها عبر إجراءات متحركة تتعلق بالاقتصاد والتكنولوجيا، والقدرة العسكرية، والقدرة على التوسع الاستراتيجي، المرتبط بالتأثير وممارسة النفوذ في الحيز الجغرافي وفي عدة مجالات. ونحن هنا أمام ثلاث آليات-تشكل مجالات قوة للأنظمة نفسها-واحدة إسرائيلية تعتمد على القوة الغاشمة والدبلوماسية الأمريكية التي تعمل على خلق حيز جغرافي إسرائيلي يعترف ويتقبل إسرائيل، ولكن تعوقه الطبيعة الغريبة للكيان الصهيوني عن تاريخ المنطقة. بينما الآلية التركية تستخدم دائماً تاريخها العثماني وصفتها الحضارية في صوغ مقبوليتها عند شعوب المنطقة وتعمل على خلق حيز جغرافي تنفذ فيه هذه الرؤية وهو ما يمكن القول أنها تحققه بعد تغيير النظام في سوريا. بدورها الآلية الإيرانية خلقت إطاراً سياسياً وشعبياً من خلال تبني القضية الفلسطينية ودعم حركات المقاومة في وجه الاحتلال الصهيوني منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، وتأمن لها حيزًا جغرافيًا قوياً هو سوريا عبر النظام السابق والتي مكنّها من الاتصال مباشرة مع القضية الفلسطينية وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين وأصبح هذا الحيز أكثر قوة بعد سقوط النظام في العراق عام 2003. وتحول هذا الحيز الجغرافي بفعل عوامل الصراع الدولي والطبيعة التنافسية للدول وبفعل الأمر الواقع إلى المجال الحيوي الإيراني ويحسب ضمن القوة الإيرانية الإقليمية أو عندما تقدر القوة الإيرانية كان يحسب ضمنها مقارنة بالقوة التركية والإسرائيلية وخسارته تعني خسارة جزء من النفوذ وتراجع في مستوى القوة.
يؤشر فقدان إيران مجالها الحيوي، الداخل عميقاً في الشرق الأوسط، وفي العرف الجيواستراتيجي أن الدلالات الناتجة عن ذلك ستؤدي إلى تراجع في النفوذ السياسي، إضافة إلى إمكانية تعرض الدولة إلى تهديدات أمنية عبر دول أو كيانات معادية، وفي طبيعة الحال هي خسارة لمساحة جغرافية كانت تشكل ممراً أيضاً نحو شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
ووفقاً للأهداف الموضوعة تعمل الولايات المتحدة على احتواء إيران وإبعادها عن روسيا والصين وتقليص النفوذ السياسي هو البداية حتى يتم إقصاء إيران من المشهد السياسي للشرق الأوسط أو ما يسمى بغرب آسيا وحصره ضمن الحدود الجغرافية للدولة الإيرانية. وعندما ندرك ما فعلته إسرائيل بعد انهيار النظام السوري والدور التركي في انهيار النظام وبناء النظام الجديد والتي تحاول إسرائيل أن تحفظ حصتها في النظام المتوقع لسوريا، ندرك تماماً أن إيران قد تكون في طريقها إلى الخروج من النظام الإقليمي للشرق الأوسط، وتراجعها إلى المرتبة الثالثة مقارنة بالقوة الإسرائيلية والقوة التركية.
الجدير بالذكر، أنه منذ عام 2000 التاريخ الناصع والانقلاب النوعي في موازين القوى في الشرق الأوسط بفعل المقاومة التي هزمت إسرائيل وطردتها من لبنان، كانت القوى المؤيدة للمشروع الأمريكي في المنطقة في حالة من التوتر والارتباك والتراجع، والمفارقة أنه منذ ذلك التاريخ وجميع تلك الإنجازات التي حققها محور المقاومة لم يتم ترجمتها سياسياً ومن ضمنها ذلك الانتصار المذهل في حرب تموز/يوليو2006 حيث المبادرة كانت في يد للمقاومة التي ثبتت سياسة الردع قيدت فيها الوحش الإسرائيلي.
في المحصلة، ظهرت السياسية الإيرانية بصفتها عملية اعتراضية على السياسة الأمريكية في المنطقة، لا بكونها نقيضاً لها تحمل مشروعها الخاص، ولم تترجم جميع ما تملك من قوة استراتيجية إلى مشروع سياسي. ومع سقوط النظام في سوريا وعزل المقاومة في لبنان تقترب إسرائيل أكثر من الجغرافيا الإيرانية التي فقدت مجالها الحيوي الجغرافي لمصلحة إسرائيل وتركيا.
روسيا وخسارة المياه الدافئة
في الحقيقة، تهدف السياسة الروسية التاريخية إلى تأمين منافذ بحرية على المياه المعتدلة والدافئة حيث تؤمن لها قدرة على تخطي الفصول الباردة التي تشل الموانئ الروسية، وتعمل على تأمين التواصل الاقتصادي مع الأسواق العالمية، وتحفظ لها حماية أمنية متقدمة في مواجهة الولايات المتحدة والغرب، ويظهر هذا التوجه بشكل واضح في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي والهادئ. وتعقيباً على ذلك، تفسر لنا الاستراتيجية الروسية اتجاه البحر الأبيض المتوسط موقع الدولة السورية في هذه الاستراتيجية والخسارة التاريخية التي لحقت بروسيا جراء سقوط نظام مؤيد لها، وحلول نظام تظهر حتى الآن جميع اتجاهاته بأنه سيكون حليفاً للغرب وأوروبا.
لا تقتصر الخسائر الروسية على فقدان نظام حليف لها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، بل ما كان يوفر لها هذا النظام من قواعد عسكرية تؤمن لها نفوذاً جيوبولوتيكياً في المياه الدافئة وتوازناً وتحدياً للوجود العسكري الأمريكي في المتوسط، حيث تملك روسيا وبموجب اتفاق مدته 49 عاماً وقع عام 2017 قاعدتين عسكريتين الأولى قاعدة جوية في "حميميم"، وقاعدة "طرطوس" البحرية وترتبط وظيفة هاتين القاعدتين بالمهمات الرئيسية للوجود العسكري الروسي في أفريقيا وبمهمات لوجستية تتعلق بالصيانة والإصلاح، وتربط أيضاً البحر الأسود بالقواعد العسكرية الروسية في أفريقيا.
النتائج على تحجيم والأرجح إنهاء الوجود العسكري الروسي في سوريا سيكون له تداعياته على مجمل النفوذ الروسي في العالم وخاصة في أفريقيا نظراً لارتباط النشاطات العسكرية والاقتصادية الروسية في أفريقيا بقواعدها العسكرية في سوريا عبر تأمين الدعم اللوجستي والفني وبدأت دول العالم تتساءل عن مدى القوة الروسية والقدرة على تنفيذ الاتفاقات المبرمة ومواجهة الولايات المتحدة.
استشراف المستقبل
فقدان المجال الحيوي للدولة هو تهديد للاستقرار السياسي والأمني ونكسة في قدرة الدولة على إدارة وحماية مصالحها الجيواستراتيجية. كانت سوريا بوابة المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ انطلاقتها ولولا الدعم السوري الذي وفرها النظام السابق لما استمرت بهذه الفعالية ولما وصلت إلى ما وصلت إليه. الخيارات الاستراتيجية لمواجهة قطع طريق الإمداد بين لبنان وسوريا يفرض على المقاومة استراتيجة وطنية لبنانية محددة بعد إعادة صياغة الأهداف والغايات فيما يخص الدولة اللبنانية، الخسائر الاستراتيجية تعوض بقدرات استراتيجية وما كانت ترفض المقاومة الحصول عليه في السابق يجب أن تحصل عليه في الوقت الحالي وهي قادرة بفعل قدراتها السياسية والشعبية. وفي المحصلة، تأتي تداعيات تغيير النظام في سوريا على شكل النظام في لبنان بحيث أن الديموغرافيا السورية تخضع لعملية اختبار ليعاد صياغتها وهو ما يفترض أن يلامس النظام اللبناني.