نبيه البرجي - خاصّ الأفضل نيوز
كان ديفيد شينكر يزورنا , مبعوثاً إلى لبنان خلال ولاية دونالد ترامب الأولى , يقول "اتركوا فلسطين للفلسطينيين" , باعتبار أننا نحمل قضايا أكبر بكثير من صواريخنا التي في الصوامع , ومن صرخاتنا التي في الشوارع . الآن تأتينا مورغان أورتاغوس , مبعوثة إلى لبنان في ولاية دونالد ترامب الثانية , لتقول لنا "اتركوا فلسطين للإسرائيليين" . بعضنا يخشى إذا ما بقيت على فظاظتها (التوراتية) في التعاطي معنا , أن تصل إلى حد القول "اتركوا لبنان لإسرائيل" !
لبنان في العين الإسرائيلية الحمراء , منذ مراسلات دافيد بن غوريون وموشي شاريت في الخمسينات من القرن الماضي . بن غوريون , أول رئيس للحكومة , وهو من أعلن قيام الدولة في 15 أيار 1948 , قال "إن عقب أخيل ـ المصطلح الذي تم اقتباسه من إلياذة هوميروس , ويعني نقطة الضعف ـ في المجموعة العربية هو في سلطة المسلمين في لبنان , وهي سلطة يمكن قهرها بسهولة".
وقال "بعد ذلك، ستقوم دولة مسيحية تكون حدودها الجنوبية نهر الليطاني , على أن توقع إسرائيل معاهدة معها , وبعد أن ينكسر الفالق العربي , وتضرب عمان بالقنابل , سوف يكون بإمكاننا إزالة دولة الأردن , ليعقب ذلك سقوط سوريا . وإذا ما تجرأت مصر فلسوف نقصف بور سعيد والإسكندرية والقاهرة , ونقضي قضاء مبرماً على مصر , وعلى أشور (العراق) , بالنيابة عن أسلافنا , أي ملوك التوراة , بالشبق الإيديولوجي للاستيلاء ليس فقط على أراضي الآخرين . بل أيضاً على أرواح الآخرين , ما يكشف أن ما يفعله بنيامين نتنياهو هو استكمال جدلي للمنحى الاستراتيجي , وكذلك المنحى الفلسفي , للدولة العبرية.
على مدى تلك العقود راحت تتكثف حالة التماهي بين الرؤية الأميركية والرؤية الإسرائيلية . شمعون بيريس قال، "لقد جرّب العرب قيادة مصر للمنطقة لنحو نصف قرن . ليجربوا قيادة إسرائيل" . هذا ما لحظته خطة المستشرق الأميركي برنارد لويس التي وافق عليها الكونغرس , بالإجماع , عام 1983 , والتي تقضي بتفكيك الخارطة العربية إلى 50 دولة .
منذ ذلك الحين , والشرق الأوسط حلبة مشرعة على كل الصراعات , سواء بين الآلهة , كما شاهدنا أثناء الحرب الباردة , أو بين أنصاف الآلهة , بالمحاولات الجيوسياسية العبثية , لإحياء أمبراطوريات دفنت في الطبقة الدنيا من التاريخ .
الجنرال ألكسندر هيغ , أول وزير خارجية في عهد رونالد ريغان , كان قد وصف المنطقة بـ "حظيرة للخيول الأميركية" .
بخلفية إيديولوجية , وبتفاعل ديناميكي مع نظرية صمويل هانتنغتون حول "صدام الحضارات" (الحضارة اليهومسيحية مقابل الحضارة الكونفواسلامية) , جرى إطلاق مشروع الشرق الأوسط الكبير في عهد الرئيس جورج دبليو بوش , بفريق الضباع , أو بفريق الحاخامات . ديك تشيني , كوندوليزا رايس , دونالد رامسفيلد , بول وولفوويتز , ريتشارد بيرل ودوغلاس فايث . التنفيذ بدأ مع احتلال أفغانستان (2001 ) والعراق (2003 ) , ليلاحظ ستيفن جون هادلي , مستشار الأمن القومي آنذاك "أننا لم نكن نعرف أين نضع أقدامنا في تلك المتاهة" . حتى اللحظة , وربما إلى نهاية العالم , يبقى الشرق الأوسط , وحيث ولدت الأساطير الكبرى , والحضارات الكبرى , وحتى الديانات الكبرى , بمثابة المتاهة .
لا يمكن , في هذا السياق , إلا أن نتوقف عند نظرية ماكس مانوارينغ , خبير الدراسات الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات التابع للكلية الحربية الأميركية , والتي أطلقها في محاضرة ألقاها في تل أبيب , في أول كانون الأول 2018 بحضور عدد من كبار ضباط الأطلسي , والضباط الإسرائيليين . النظرية تتعلق بالجيل الرابع من الحروب , وتقوم على ثنائية الإنهاك والتآكل البطيء , بحيث تتحول المجتمعات إلى "قطعان هائمة" . باختصار حرب دون أي بعد إنساني أو أخلاقي ."في مثل هذه الحروب قد تشاهدون أطفالاً , ومسنين , قتلى . لا تنزعجوا" .
ببساطة أن يكون الجنود ذئاباً بشرية , وهذا ما رأيناه , وما زلنا نراه , في غزة . الإبادة الجماعية لأهل القطاع الذي تحول إلى "مقبرة القرن" . المهم في النظرية " دع عدوك يستيقظ ميتاً" . هل يمكن للشيطان أن يفكر بتلك الطريقة ؟ لكنهم الأميركيون و الاسرائيليون ...
ثمة بلدان عربية كانت ضحية تلك النظرية . وهي إما انفجرت وتحولت إلى شظايا قبلية , أو طائفية , أو إثنية , أو مناطقية , أو تعفنت , بسبب التعليب التوتاليتاري لرعاياها . هذا ما يشق الطريق أمام تفكيك البنى السوسيو تاريخية للمجتمات , وكذلك تفكيك الخرائط وإن كانت هذه الخرائط نتاج استراتيجية الشوكة والسكين التي انتهجتها الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى , قبل أن تنتقل قيادة الكرة الأرضية , إثر الحرب العالمية الثانية , إلى الضفة الأخرى من الأطلسي.
جدلياً , كل تلك السيناريوات , وغيرها وغيرها , قادت إلى اللحظة الراهنة . غزة منطقة عقارية , ويتم تحويلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط (إلى أين تنقل مقابر الضحايا ؟) . لبنان الذي كان يتأرجح بين خيار هانوي وهونغ كونغ , يفترض أن يتأرجح بين خيار لاس فيغاس والبيفرلي هيلز , إذا ما أخذنا بالاعتبار الموت التدريجي للألق الثقافي الذي كان يغطي العالم العربي .
الآن , الدخول إلى ثقافة التفاهة . انظروا أية أهوال على الشاشات . هل هكذا نحن حقاً , بكل أزماتنا , وبكل مصائبنا ؟ موت ثقافي عربي عام , وربما أبدي , لكأننا لسنا ورثة ابن رشد والفارابي , ولا ورثة المتنبي وأبي العلاء المعري .
لا أحد مستعد لتشييعنا إلى مثوانا الأخير، بحسب التلمود يفترض أن تبقى جثثنا في العراء . بكل تلك الفظاظة قالت ميريام ادلسون , أرملة الملياردير النيويوركي شلدون أدلسون , "دعوا الموتى يحفرون قبورهم بأيديهم" !!