د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
وحدث ما كان متوقعًا، إذ تهاوت جدران الحماية السياسية ضد السيل الجارف للتيار اليميني المتطرف في أوروبا، الذي كان يعتبر ذات يوم بأنه مستورد من خارج الحدود، وانهار الطوق، حول من تم وصفهم دائمًا بالحركات الفاشية في أوروبا التي استفاقت أمس — وفي أعقاب ظهور النتائج الأوليّة لانتخابات البرلمان الأوروبي (الأحد الماضي) ــــ على كارثة خلطت حسابات القادة الأوروبيين وهدّدت عروشهم.
فالجماعات اليمينيّة، حقّقت فوزًا كبيرًا (وإن لم تَفُزْ بالأغلبية)، وبالتالي فرضت نفسها لاعبًا رئيسيًّا في القارة العجوز، لا يمكن القفز فوقها أو تجاهل أرقامها، بعدما تصدرت المسيرة، مع قيام الناخبين الأوروبيين بمعاقبة الوسطيين الحاكمين، وتصويتهم بكثافة لأحزاب اليمين المتطرف، لا سيما في فرنسا، حيث دفعت هذه النتائج، بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى حل "الجمعية الوطنية" والدعوة إلى انتخابات مبكرة.
وكيف جاءت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي؟
وعلى الرغم من أنه كان من المتوقع أن تحافظ مجموعة من "الأحزاب الوسطية" المؤيدة لأوروبا على الأغلبية في الهيئة التشريعية للاتحاد الأوروبي، إلا أن الأحزاب اليمينية المتطرفة حصدت أكبر نسبة من المقاعد من فرنسا وإيطاليا، بينما احتلت المرتبة الثانية في ألمانيا. وفي حين احتفل حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا أيضًا يوم الأحد بعد أن أظهرت الترجيحات أنه احتل المركز الأول للمرة الأولى، حظيت الأحزاب الخضراء، بترحيب خاص، في جميع أنحاء الاتحاد.
وتعقيبًا على ذلك قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ليلة الأحد الفائت إن "المركز ممسوك. لكن النتيجة، التي حققت فيها الأحزاب المتطرفة مكاسب، تأتي مع مسؤولية كبيرة على عاتق أحزاب الوسط" لضمان "الاستقرار" فأوروبا قوية وفعالة".
بدوره، إذ رأى ماكرون أن الانتخابات التشريعية ستمنح المواطنين الفرنسيين فرصة لتحديد مستقبل بلادهم"، فقد حذر من أن "صعود القوميين والديماغوجيين يشكل خطرًا على أمتنا، ولكن أيضًا على أوروبا، وعلى مكانة فرنسا في أوروبا وفي العالم".
التداعيات السياسية والاستراتيجية لفوز اليمين المتطرف؟
عمليًّا، تقام انتخابات البرلمان الأوروبي كل خمس سنوات، حيث يدلي مواطنو الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، بأصواتهم لتحديد 720 ممثلًا في بروكسل وستراسبورغ. والمثير أنه، منذ الانتخابات الأخيرة في عام 2019، دخلت الأحزاب اليمينية المتشددة التي كانت هامشية، الحياة السياسية أوروبا، ويبدو أن النتائج تعكس هذه التحولات.
وعليه، إن مكاسب هذه الأحزاب اليمينية لا تمثل تذكرة للوصول إلى السلطة - فلا يزال ائتلاف أحزاب يمين الوسط الأوروبي هو أكبر مجموعة في البرلمان ويمكنه التعاون مع تيار يسار الوسط السائد - لكنها تسلط الضوء على الاتجاه الأعمق، أي التحول المخيف الذي تتجه إليه أوروبا التي اعتُبرت لفترة طويلة معقلاً للقيم الليبرالية في مرحلة ما بعد القومية،، بل ربما يمهد هذا التغير لعصر جديد من السياسات اليمينية في الغرب.
صحيح أن برلمان الاتحاد الأوروبي ليس المؤسسة الأكثر أهمية في القارة، أو قويّ مثل مؤسسات الاتحاد الأوروبي الأخرى، إذ لا يمكنه طرح القوانين بشكل مباشر، غير أنه بالمقابل يمكنه الاعتراض عليها، وصياغتها، وهو المسؤول كذلك عن الموافقة على قوانين الاتحاد الأوروبي.
كما أن "الميزانية التي تقدمها كل دولة، تمنحها بعض السلطة في وضع جدول الأعمال". الجدير بالذكر هنا، أن أعضاء البرلمان، كانوا لعبوا دورًا رئيسيًّا في التفاوض بشأن لوائح الذكاء الاصطناعي التاريخية للاتحاد الأوروبي في العام الماضي.
رئاسة البرلمان وظاهرة صعود (اليمينية) جورجيا ميلوني رئيس الحكومة الايطالية؟
في الواقع، إن للبرلمان أيضًا الكلمة الأخيرة فيما يتعلق باختيار رئيس المفوضية الأوروبية، وهو المنصب الأقوى في الاتحاد. لذا من المتوقع أن تسعى أورسولا فون دير لاين، السياسية الألمانية من "يمين الوسط"، والتي شغلت هذا المنصب على مدى السنوات الخمس الماضية، إلى فترة ولاية ثانية.
الأكثر أهمية في هذه النقطة، أنها ربما تحاول هذه المرة الاعتماد على دعم بعض زعماء اليمين المتطرف الأوروبي ــ على وجه التحديد، رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، التي شقت طريقًا، بدأته غامضًا وهامشيًّا، لتصعد بالنهاية إلى قمة التيار الأوروبي الرئيسي بشكل أكثر فعالية من أي زعيم قومي آخر في أوروبا الغربية.
علاوة على ذلك، يرى المحلّلون في صعود ميلوني نموذجًا لكيفية وصول اليمين المتطرف إلى السلطة. ففي إيطاليا، فشل يمين الوسط، ولم يثبت أنه عائق أمام حزب تعود أصوله مباشرة إلى الفاشية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية (أي اليمين المتطرف).
ليس هذا فسحب، فنجاحها يعد مثالًا أيضًا، على قدرة اليمين المتطرف لحشد التعبئة الجماعية، إذ حافظت ميلوني على مسافة من زملائها اليمينيين (وأحيانًا كانت على خلاف معهم) مثل زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان، التي تجنبت بدورها نظراءها المتشددين في حزب البديل من أجل ألمانيا.
إلى جانب ذلك، يبدو أن السياسة الأوروبية تتجه نحو التموضع في المكان الذي تصطف فيه هذه الأحزاب التي تشكك بسياسات المناخ العدوانية للاتحاد الأوروبي، وتثير بقوة أكبر قضية الهجرة. وتبعًا لذلك قال لي هانز كوندناني، الزميل الزائر في معهد ريمارك بجامعة نيويورك: "لدى مختلف أحزاب "اليمين المتطرف" في جميع أنحاء أوروبا موقف مشترك بشأن الهوية والهجرة والإسلام، وهي أيضًا المكان الذي تتقارب فيه بشكل متزايد مع "يمين الوسط".
وفي السياق ذاته، لاحظ عالم السياسة الهولندي كاس مود أن "مركز القوة الجديد لن يكون اليمين المتطرف، بقدر ما سيكون "اليمين المتطرف" في "كتلة يمين الوسط" بزعامة فون دير لاين، وهذه بدورها ستستغل الضغوط التي تمارسها ميلوني وآخرون، لدفع شركائها التقليديين في الائتلاف، إلى اليمين، لا سيما في قضايا مثل البيئة، الجنس والجنس، وبالطبع الهجرة".
اليمين الأوروبي المتطرف وسياسات الهجرة
بغض النظر عن الحدود الداخلية المفتوحة لمنطقة شنغن، فإن الاتحاد الأوروبي يعمل جاهدًا لتعزيز حواجزه الخارجية أمام المهاجرين طالبي اللجوء، عبر قيام الاتحاد والحكومات الأوروبية الفردية، بدعم وتمويل دول شمال إفريقيا التي تحتجز عشرات الآلاف من المهاجرين الذين تنقل بعضهم أيضاً إلى المناطق النائية في الصحراء الكبرى.
وتعليقًا على ذلك، أوضح الباحث كوندناني أن "سياسة اللاجئين في الاتحاد الأوروبي هي سياسة ترامبية أكثر بكثير مما يبدو أن الناس يدركون"، مضيفًا أن الاتحاد الأوروبي الأكثر يمينية بشكل علني "لن يبدو مختلفًا عن الاتحاد الأوروبي الحالي".
في المحصلة، أمام هذا المشهد المتحول، ثمة أمر غير معروف وهو ما إذا كان زعماء اليمين المتطرف مثل ميلوني ولوبان سيعملون معًا أو كيف سيتعاونون، خصوصًا وأن حزب "التجمع الوطني" بزعامة لوبان، يشارك ميلوني في وجهات نظرها المتشددة بشأن الهجرة وبعض القضايا الاجتماعية، لكنه أكثر تشكيكًا في أوروبا، ويشعر بقلق عميق بشأن المزيد من دعم الاتحاد الأوروبي.