طارق ترشيشي - خاص الأفضل نيوز
ما بعد تشييع الأمينين العامَين لحزب الله الشهيدين السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين لن يكون كما قبله، من حيث الرسائل المباشرة وغير المباشرة والأبعاد التي سينطوي سواء في اتجاه المستوى الداخلي وتوازناته السياسية أو في اتجاه المستويين الإقليمي والدولي وتعاطيهما مع لبنان في ضوء نتائج العدوان الإسرائيلي الذي لم ينته فصولاً بعد.
أهم هذه الرسائل الموجهة الى الداخل والخارج أن ما كان يمثله الشهيدان باقٍ ومستمر وربما سيتعاظم أكثر فأكثر ما يفرض على الجميع إعادة النظر في الاستناجات ـ الأحكام التي خلصوا إليها في ضوء العدوان الإسرائيلي المستمر والتي تعتبر أن المقاومة وبيئتها قد هزمت وما عليها إلا التسليم بالأمر الواقع، وإعادة التموضع السياسي، وربما العسكري بما يجعلها تنساق مع طبيعة التعاطي الأميركي والغربي الجديد والتزام مراميه وأبعاده المختلفة. فكل المعطيات تشير الى أن المقاومة وبيئتها لم ينكسرا على رغم الضربات الموجعة التي تلقياها وأبرزها استشهاد السيد نصرالله وخليفته السيد صفي الدين وقادة المقاومة العسكريين الكبار، بدليل أن حضورهما ما زال على حيويته، بل إنه بات أكثر حيوية من ذي قبل، وهو ما تدركه إسرائيل جيدًا ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية، بدليل أن عدوانهما مستمر وبدأ يأخذ أبعادا جديدة تتخطى الأعمال العسكرية إلى فرض حصار على حزب الله وبيئته الحاضنة تصل الى حدود منع إعادة إعمار ما هدمه العدوان عبر منع وصول المساعدات المالية وغيرها في محاولة جديدة لتأليب هذه البيئة على "الحزب"، على غرار محاولات سابقة وفي مجالات أخرى تلاحقت منذ العام 2019 وانتهت كلها الى الفشل، ومنها أزمة الودائع في المصارف والتي تعود لنسبة 60 في المئة، إن لم يكن أكثر، من أبناء هذه البيئة.
وحتى أن الذين يعولون على أن السلطة اللبنانية الجديدة التي نشأت برعاية أميركية ـ عربية لخدمة تطلعاتهم ومشاريعهم السياسية الخاصة سيكتشفون أن هذه السلطة التي تعلن الحرص على العمل لدفع لبنان الى آفاق الانفراج لن تكون لهم وحدهم ولمشيآتهم، ولن تصطدم بالحزب، أو بثنائي حركة "أمل" وحزب الله وبيئتهما التي تتخطى الطائفة الشيعية الى طوائف أخرى، ولا حتى الاصطدام بأي بيئة لبنانية أخرى، خصوصًا وأن الجميع يدرك أن "لبنان واحد لا لبنانان" وأن "لبنان لا يمكن أن يعيش بجناح سليم وآخر مريض" كما كان يقول رئيس الوزراء الراحل رجل الاستقلال صائب سلام. وكذلك لا يمكن أن يُحكم بأحادية خصوصًا بعد إقرار "وثيقة الوفاق الوطني" المعروفة بـ"اتفاق الطائف" التي تؤكد نهائية لبنان "وطنا نهائيا لجميع أبنائه" ولا تقسم فيه ولا توطين ولا تجزئة. وهذا "الطائف" يعتنقه جميع اللبنانيين منذ إقراره في "مؤتمر البرلمانيين اللبنانيين" الذي انعقد خريف العام 1989 في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية.
والجميع في الداخل والخارج يدركون أن كل هم الولايات المتحدة والغرب الداعمين لإسرائيل منذ نشوء كيانها عام 1947 كان ولا يزال حتى الآن ومن الحرب الدائرة حاليا ومن كل الحروب السابقة هو تقويض وإنهاء كل حركة مقاومة تهدد وجود هذا الكيان الذي قام أساساً على اغتصاب أرض فلسطين التاريخية وقتل شعبها وتشريده الى كل بقاع الدنيا واحتلال ما أمكن من الأراضي العربية سعيا الى تطبيق شعار: "حدودكِ يا إسرائيل من الفرات الى النيل".
ولذلك، وبعد التشييع، ستتغير اتجاهات الريح وقواعد اللعبة السياسية الداخلية والخارجية القائمة حاليا على قاعدة أن هناك "فريقا انتصر" وفريقا آخر انهزم وعليه أن يسلم بهذه القواعد ويقدم التنازلات، وسيجد الذين يعتبرون أنفسهم "منتصرين" أن عليهم التراجع عن مواقفهم ومراجعة حساباتهم، والتحلي بالواقعية في بلد لا يُحكم إلاّ بالتوافق، وقد فتح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الباب أمامهم لهذا التراجع بتراجعه عن طرحه الداعي الى تهجير أهالي قطاع غزة الى الاردن ومصر بقوله أنه لا يلزم أحدا بهذا الطرح إذا لم يقبل المعنيون به.
على أن انتخاب رئيس الجمهورية وبالتالي تشكيل الحكومة كان نتاج توافق داخلي، وهذا التوافق يلزم جميع الأفرقاء السياسيين وخصوصا الذين شاركوا في الحكومة أن يتصرفوا ويتحملوا المسؤولية بروحية التوافق نفسه لا أن ينبري هذا الطرف أو ذاك الى التعاطي مع الفريق الآخر شريكه في السلطة والحكومة على أنه مهزوم ويجب أن يسلم بكل ما يُطرح عليه وعدم المناقشة فيه أو الاعتراض. وكل التوقعات والمعطيات تشير الى أن رئيس الجمهورية العماد جوزف عون وانطلاقا مما تعهد به في "خطاب القسم" سيقود الوفاق الوطني داخل الحكومة وعلى المستوى الوطني العام من موقعه كحَكَم بين الجميع لأنه "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن والقائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء"، حسبما ينص الدستور. وبالتالي لا يمكنه أن يفرط بهذا الدور والصلاحية مهما كلف الأمر، حتى لا تذهب البلاد الى مكان آخر لا تُحمَد عقباه.
فالمقاومة ستبقى طالما إسرائيل تحتل أرضا لبنانية، وهي حق يقره "اتفاق الطائف" والدستور وقبله كل المواثيق والأعراف الدولية، وليس مهمًا أن وردت كلمة "مقاومة" في البيان الوزراي مباشرة أو مواربة، فللبنان الحق باعتماد "كل الوسائل المتاحة" لتحرير أرضه التي تحتلها إسرائيل، وهذا الأمر لا ينبغي أن يكون موردًا لخلاف داخلي أو لتعطيل عمل المؤسسات، خصوصا إذا علما أن إخراج لبنان من الأزمات التي تعصف به هو وجه من وجوه العمل المقاوم، لأن المقاومة ليست فقط فعلا لتحرير الأرض وإنما توازيها مقاومة سياسية لمنع الفتنة التي يحاول البعض إيقاظها ولتحرير البلاد من أزماتها المتنوعة ودفعها الى آفاق التعافي من كل هذه الأزمات.