نوال أبو حيدر ـ خاصّ الأفضل نيوز
في خضمّ أزمة اقتصادية هي الأشد في تاريخ لبنان الحديث، لفت انتباه المراقبين الارتفاع اللافت في قيمة السندات الحكومية اللبنانية المتعثّرة، التي تضاعفت نحو أربع مرات خلال عام واحد، لترتفع من نحو 6 سنتات إلى ما يقارب 24 سنتًا على الدولار. وقد فسّر العديد من المحللين هذا الصعود المفاجئ كمؤشّر على عودة جزئية لثقة المستثمرين، مدفوعة بتشكيل الحكومة الجديدة، وإشارات تقدّم في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إضافة إلى الآمال بالحصول على تمويلات خارجية لإعادة الإعمار بعد العدوان الإسرائيلي الأخير.
غير أنّ هذا التفاؤل في الأسواق المالية لا يعكس بالضرورة تحسّنا فعليا في الأسس الاقتصادية للبلاد، التي لا تزال تواجه تحديات بنيوية عميقة، تشمل الانهيار المصرفي، الانقسام السياسي، غياب الإصلاحات، وارتفاع الدين العام بشكل غير مستدام. كما أنّ الغموض المحيط بحجم الخسائر في القطاع المصرفي، وآلية توزيعها بين الدولة والمصارف وحاملي السندات، يلقي بظلاله على أي تقديرات مستقبلية للتعافي.
وعليه، فإن هذا الأمر يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى واقعية هذا الانتعاش الظاهري، وإلى أي حد يمكن أن يُبنى عليه كمنطلق لتعافٍ اقتصادي شامل، أم أنّه مجرد حركة مؤقتة لا تعكس تحوّلا حقيقيا في مسار الأزمة اللبنانية المعقّدة.
تفاؤل هشّ في الأسواق... لا تعافٍ اقتصادي حقيقي بعد
أوساط مطّلعة على الملف الاقتصادي، تقول لموقع "الأفضل نيوز" إن "ارتفاع قيمة السندات المتعثّرة في لبنان يُعدّ في الغالب انعكاساً لتحسّن ظرفي في ثقة الأسواق، وليس دليلاً على تعافٍ اقتصادي فعلي. هذا الارتفاع يرتبط عادةً بتطوّرات سياسية محدودة، مثل تشكيل حكومة أو الحديث عن تسويات محتملة، ما يولّد موجة تفاؤل مؤقّت لدى بعض المستثمرين، وخصوصا المضاربين في الأسواق الثانوية".
وتتابع: "هذا التفاؤل لا يستند إلى تغيّرات جوهرية في أساسيات الاقتصاد اللبناني، الذي لا يزال يعاني من أزمة عميقة تشمل الانهيار المصرفي، العجز في المالية العامة، والانكماش الاقتصادي المستمر. كما أن غياب أي تقدّم ملموس في الإصلاحات البنيوية، واستمرار الجمود في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، يعززان الفرضية بأن ارتفاع أسعار السندات ليس سوى انعكاس لتوقعات أو رهانات مؤقتة على استقرار سياسي نسبي، لا أكثر".
وبحسب معظم الخبراء، فإن "الأسواق قد تبدي ردّات فعل مبالغ فيها أحيانا، إلا أن المسار الاقتصادي المستدام يبقى مرهوناً بإصلاحات حقيقية وشاملة لم تُنجز بعد".
عوائق سياسية واقتصادية تهدّد استدامة التحسّن في السندات
وفي سياق مرتبط، ترى الأوساط نفسها أن "استدامة ارتفاع قيمة السندات اللبنانية تواجه مجموعة من العوائق السياسية والاقتصادية التي قد تُفقد الأسواق ثقتها سريعاً. فعلى المستوى السياسي، يُعدّ استمرار الانقسامات وغياب التوافق حول الملفات الأساسية مثل تنفيذ الإصلاحات المطلوبة عاملاً أساسياً في تعطيل أي مسار إصلاحي جدي، ما يزرع الشكوك لدى المستثمرين حول جدّية الدولة في الخروج من أزمتها".
وتتابع: "أما اقتصاديا، فإن تعثّر أو انهيار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي يُعدّ مؤشّرا سلبيا قويا، لأنه يُظهر عجز السلطات اللبنانية عن الالتزام بشروط الإصلاح، ويُفقد البلاد أي فرصة للحصول على دعم مالي خارجي موثوق. كما أن غياب التقدّم في ملفات حيوية كإصلاح القطاع المصرفي، ضبط المالية العامة، وإعادة هيكلة الدين العام، يُبقي بيئة الاستثمار محفوفة بالمخاطر، ويعزّز الانطباع بأن التحسّن في أسعار السندات غير مستدام. إذ إن أي انتكاسة سياسية أو فشل تفاوضي يُمكن أن يُترجم بسرعة إلى تراجع في الأسعار، خاصة إذا كان الارتفاع الأخير مدفوعا أساسا بتوقّعات أو مضاربات قصيرة الأجل، لا بتحسّن فعلي في الأسس الاقتصادية".
العامل الحاسم في مستقبل السندات اللبنانية؟!
أمام كل تلك المعطيات، تشرح الأوساط الاقتصادية أن "صندوق النقد الدولي يلعب دورا محوريا في تحديد مصير السندات اللبنانية، نظرا لكونه الجهة القادرة على توفير مظلّة دعم مالي وإصلاحي تعيد الثقة إلى الأسواق. فالاتفاق مع الصندوق لا يقتصر على تمويل محدود، بل يُمثّل إشارة أساسية للمستثمرين على التزام الدولة بمسار إصلاحي جدي يشمل إعادة هيكلة الدين، ضبط المالية العامة، إصلاح القطاع المصرفي، وتحسين الحوكمة، وفي حال تم التوصّل إلى اتفاق نهائي وموثوق، من المتوقّع أن تنخفض المخاطر السيادية، ما قد يدفع أسعار السندات إلى الارتفاع بشكل مستدام، ويُعيد جزءا من ثقة المستثمرين. أما في حال تعثّرت المفاوضات أو بقي الاتفاق على مستوى "مسودة تفاهم" كما هو حاصل حاليا، فستبقى السندات في موقع هشّ، ويظل تحسّن أسعارها مرهونا بمضاربات ظرفية لا تعكس تحوّلا حقيقيا في الأوضاع المالية للدولة. لذا، فإن مصير هذه السندات مرتبط إلى حد كبير بقدرة الدولة اللبنانية على التقدّم في الإصلاحات المطلوبة والتوصّل إلى اتفاق نهائي مع الصندوق، يُترجم عمليا على أرض الواقع".
التعافي الاقتصادي في خانة الخطر؟!
عليه، توضح الأوساط ذاتها أن "حجم الخسائر الكبير في القطاع المصرفي اللبناني يُعدّ عاملا حاسما سيؤثر بشكل مباشر على حملة السندات وعلى آفاق التعافي الاقتصادي ككل. فهذه الخسائر، التي تُقدّر بعشرات مليارات الدولارات، تشكّل فجوة ضخمة بين التزامات المصارف وواقع أصولها، ما يطرح إشكالية حول من سيتحمّل هذه الخسائر، وكيف سيتم توزيعها بين الدولة والمصارف والمودعين".
وتتابع: "في هذا السياق، قد يتأثر حمَلة السندات سلبا إذا شملتهم خطط إعادة الهيكلة، عبر تخفيض قيمة السندات (Haircut) أو تغيير شروطها بشكل قسري، بهدف تقليص حجم الدين العام ضمن تسوية شاملة".
أما على مستوى التعافي الاقتصادي، فتختم: "إن استمرار الأزمة المصرفية دون حلّ واضح وعادل يُبقي النظام المالي مشلولاً، ويعيق ضخ السيولة في الاقتصاد، ويضعف قدرة الدولة على تنفيذ أي خطة نهوض. وبالتالي، فإن معالجة الخسائر المصرفية بطريقة شفافة ومنصفة تُعدّ شرطا أساسيا لاستعادة الثقة، وجذب الاستثمارات، ووضع لبنان على مسار تعاف مستدام، وهي مسألة ترتبط أيضا بموقف حمَلة السندات وإمكانية مشاركتهم في أي حلّ شامل".