الياس المرّ - خاصّ الأفضل نيوز
في خضمّ التوترات التي تعصف بالمنطقة، يعود إلى لبنان السؤال الذي يشبه اختباراً دائماً لواقعه: هل نحن أمام عودة وشيكة للحرب؟
هذا السؤال ليس نتاج خوف عابر، بل نتيجة قراءة واعية للتوازنات التي تحكم الإقليم، حيث لا يملك لبنان القدرة على عزل نفسه عن الموجات الكبرى، بل يجد نفسه باستمرار جزءاً من معادلة أكبر تُصاغ خارج حدوده، فالبرغم من غياب قدرته على التأثير في مجرى الأمور إلاّ أنه يعيش آثارها حكماً وبشكلٍ نمطيٍّ لا إرادي.
من التاريخ إلى الراهن
التجربة اللبنانية مع الحرب ليست مجرد تراكم أحداث سابقة، بل هي نمط تكراري يعكس هشاشة النظام السياسي الداخلي وتقاطعه مع التحولات الإقليمية. الحرب الأهلية (1975-1990) لم تكن حدثاً داخلياً فحسب، بل نتاج صراع محاور إقليمي ودولي. كذلك حرب تموز 2006 لم تكن مجرد مواجهة حدودية، بل محطة في صراع أوسع بين الولايات المتحدة وإيران على أرض المنطقة.
إذن، التاريخ ليس خلفية وصفية، بل مؤشر على أن الحرب في لبنان تنشأ حين تتقاطع أزماته الداخلية مع الانفجارات الإقليمية.
الوضع الإقليمي: دينامية التصعيد
اليوم، المنطقة تتحرك وفق معادلة “الجبهة الواحدة”: غزة، لبنان، وسوريا تُدار في عقل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية كساحات مترابطة. استمرار الحرب في غزة دون أفق سياسي يعزز احتمالية انتقال الضغط نحو لبنان، سواء عبر توسيع المواجهة أو استخدامه كساحة لتعديل التوازن.
في المقابل، “محور المقاومة” يسعى إلى إدارة التصعيد: أي إبقاء الاشتباك مفتوحاً دون الانزلاق إلى حرب شاملة، بغية استنزاف إسرائيل ومنعها من تثبيت انتصار. لكن هذه الإدارة محفوفة بالمخاطر، لأن أي خلل في الحسابات أو أي ضربة إسرائيلية واسعة قد تفرض معادلة حرب لا يريدها الطرفان، وقد يسعى في لحظة "خلل" إلى إعادة بناء الصورة الردعية التي يعمل الإعلام على إفراغه منها، من خلال المبادرة إلى الرد على كل الانتهاكات الإسرائيلية التي لم تتوقف لحظة، منذ اتفاق وقف إطلاق النار المُبرم في ٢٧ تشرين الأول ٢٠٢٤.
الغرب والهوامش إسرائيل.. لا رابح ولا خاسر!!
السياسة الأميركية في المنطقة تتسم بـ”ردع مضاعف”: ردع إيران وحلفائها من جهة، والحفاظ على التفوق الإسرائيلي من جهة ثانية. هذه المقاربة تجعل من لبنان ساحة محتملة للتجريب، حيث يُسمح لإسرائيل بهوامش مناورة واسعة تحت عنوان “الدفاع عن النفس”، لكن التحليل الأعمق يكشف أن هذه الهوامش ليست غير محدودة. واشنطن، رغم دعمها غير المشروط لتل أبيب، تُدرك أن حرباً شاملة مع لبنان قد تُربك خططها الإقليمية، وتفتح الباب أمام تورط أوسع لإيران وربما روسيا، بالتالي، لبنان يقع في منطقة رمادية: ممنوع أن ينتصر بالكامل، وممنوع أن يُسحق بالكامل، وهو ما يفسّر التعقيد في القرار الإسرائيلي تجاهه، وقد يفسر النتائح التي وصل إليها في الحربين الأخيرتين، تموز ٢٠٠٦ و سهام الشمال ٢٠٢٤، نتائج ضبابية، اتفاق ضبابي، تنفيذ هش وتفسيرات متضاربة من كلا الطرفين.
ربطاً بغزة وسوريا
الحرب على غزة هي العامل الأكثر تأثيراً. طالما أن النار قائمة في غزّة فاحتمال تجدد الحرب الشاملة يبقى قائماً وبقوّة في لبنان، وهذا رهنٌ بنتائج أي حسم عسكري أو شكل أي تسوية سياسيّة قد يفرضها، التوقيت الضاغط على إسرائيل من جهة، والحسابات الأميركية من جهة أخرى، أما سوريا، فهي تمثّل “الخاصرة الاستراتيجية” للبنان. استمرار الضربات الإسرائيلية هناك يكشف أن تل أبيب لا ترى في دمشق ساحةً لتقليص نفوذ إيران وحزب الله فقط، كما كانت تدعي قبل سقوط النظام، بل ساحة طموح جغرافي ذي أبعاد استراتيجية توسعيّة عقائدية، لها ارتباطها المباشر بخارطة "إسرائيل الكبرى" وهذا ما يعكس الخوف على لبنان حتى بعد ما يسمى بحصر السلاح أو حتى التخلص كليا منه وهذا ما جرى في سوريا ولم يبعدها عن دائرة الاعتداءات واتساع دائرة الاحتلال الإسرائيلي.
هذا الارتباط لا سيما المساحة المشتركة المتمثلة بسلسلة الجبال الشرقية وما لها من تأثير مباشر على كل من دمشق والبقاع يجعل أي حرب في لبنان غير محصورة جغرافياً، بل قابلة للتمدد نحو سوريا، والعكس صحيح، ما يعني اتساع رقعة الصراع بشكل إقليمي وجعل المخاطر مضاعفة.
الداخل اللبناني: الهشاشة كعامل ضغط
على المستوى الداخلي، الأزمة الاقتصادية والسياسية تضع لبنان في موقع هشّ. غياب المقومات القادرة على إدارة تبعات الحرب يعني أن أي مواجهة جديدة ستكون أثقل وطأة من سابقاتها. لكن المفارقة أن هذه الهشاشة لا تمنع الحرب، بل قد تشجع أطرافاً إقليمية ودولية على توظيف الساحة اللبنانية كأداة ضغط إضافية، بحكم أن الانهيار الداخلي يُضعف قدرة لبنان على فرض خطوط حمراء واضحة.
في المقابل، المقاومة ترى في هذه الهشاشة سبباً إضافياً لتثبيت معادلة الردع، وسط قدرتها على إعادة بناء القدرات التقنية والاحتفاظ بالقدرات التنظيمية والبشرية، إذ إن سقوط لبنان في فوضى شاملة سيقوّض شرعيتها الشعبية، والتمادي بممارسة الضغوط السياسية إلى حدودها القصوى مع استمرار الاحتلال والخروقات الإسرائيلية بشكل متواصل، سيجعل من الخيارات العسكرية في لحظة ما، الأفضل بين مجموعة من الخيارات الخطيرة والسيئة!
الحرب.. والبُعد الإنساني
خارج الحسابات الاستراتيجية، يبقى البعد الإنساني حاضراً. في بلد يختزن ذاكرة نزوح ودمار، العودة إلى الحرب تعني عملياً إعادة إنتاج ذاكرة الصدمة التي ترافق الأجيال. هنا تكمن الرمزية: الحرب في لبنان ليست مجرد حدث عسكري، بل تهديد لمفهوم العيش المشترك ذاته. كل حرب جديدة تضرب النموذج اللبناني وتعمّق الشروخ الاجتماعية، ما يجعل السؤال عن الحرب سؤالاً عن إمكانية استمرار “الفكرة اللبنانية” في بيئةٍ إقليمية مضطربة، تترنح بين الأزمات الداخلية المتتالية وتأثيرات الوضع الإقليمي على تركيبةِ العائلات اللبنانية وعلاقتها ببعضها البعض، في ظل شحن خارجي وموجاتٍ غير صحيّة.
سيناريوهات الغد..
إذن، هل ستعود الحرب؟ التحليل يُظهر أن لبنان عالق في معادلة مزدوجة: من جهة، توازن الردع يمنع الحرب الشاملة، ومن جهة أخرى، استمرار التصعيد في غزة وسوريا يبقي شبح الحرب قائماً.
السيناريو الأكثر ترجيحاً هو استمرار “حرب الاستنزاف” على الحدود الجنوبية، لكن دون انفجار شامل، إلا إذا دفعت تل أبيب ثمن غالياً في غزة وأرادت تحويل لبنان إلى ساحة انتقام، بدل عن نصر ضائع، كما وفشل الخارج في الضغط السياسي على الحكومة والأطراف قد يكون السبب والذريعة لإسرائيل في تجديد حربها على لبنان، أم أن رهان إسرائيل على حرب داخلية لمّح عن التحضير لها الموفد الأميركي في مقابلته الأخيرة، سيؤخر قرارها بالخدول في جولة جديدة؟
في النهاية، يبقى الجواب معلقاً بين احتمالية التصعيد وإمكانية الاحتواء.
لبنان لم يعد يملك ترف رسم مستقبله بنفسه، بل يجد نفسه رهينة لقرارات إقليمية ودولية. السؤال يبقى مفتوحاً: هل سيبقى لبنان جبهة ثانوية ضمن صراع أوسع، أم أنه سيتحوّل إلى الساحة المركزية في الجولة المقبلة؟
طالما أن الجواب في تل أبيب وعواصم القرار الدولي، فلا داعي للمنافسة الداخلية على من يمتلك قرار السلم والحرب، طالما أنه ضائع، ولن يُعثر عليه لا في شوارع بيروت ولا على صخرة روشتها!!