د. علي دربج، باحث وأستاذ جامعي - خاص الأفضل نيوز
في السّنوات الأخيرة، ومع صعود الصين كعملاق اقتصادي كبير ــــ وتعليق البعض الآمال عليها لتكون ندًّا ومنافسًا حقيقيًّا للولايات المتحدة ــــ عاد مصطلح "اللعبة الكبرى" إلى الظهور من جديد، في إشارة إلى الصراع القائم على النفوذ بين القطبين في العديد من مناطق العالم.
الجذور التاريخية لمصطلح "اللعبة الكبرى"
في الحقيقة، تعود جذور هذه الفكرة إلى صراع إمبراطوريات القرن التاسع عشر، حيث تنافست القوى العظمى مثل روسيا وبريطانيا على النفوذ عبر مساحة شاسعة من أوراسيا، تمتد من مياه بحر قزوين إلى وديان التبت. ووسط هذا الصراع، كانت هناك مجموعة من الممالك المتدهورة، والإمارات الصغيرة، والقبائل المتحاربة، التي قامت بريطانيا وروسيا إما بغزوها أو استمالتها أو إجبارها لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية الكبرى في التنافس مع الأخرى.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، تركت طريقة عمل "اللعبة الكبرى" - التي صاغها ضابط استعماري بريطاني في أفغانستان عام 1840 – صدى معاصراً أيضاً، عندما رأى المحلّلون والصحفيون بصيصًا من "اللعبة الكبرى" في الصراع الروسي - الغربي- الصيني على النفوذ بين الدول المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى.
أما الآن، فالخبراء مشغولون برصد منافسة أكبر بكثير تعيد تشكيل العالم. فالسباق بين الولايات المتحدة والصين في أشده حاليًّا عبر القارات، مع بروز بؤر توتر جيوسياسية واقتصادية في مختلف أرجاء آسيا، وأفريقيا، والشرق الأوسط، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية.
غير أن اللافت هو تولد نوع من الرؤية المحدودة في بعض الأوساط في واشنطن، حيث تركز النخبة السياسية بشكل متزايد على منطقة نائية فقط لتحديد مدى نفوذ بكين.
وبناءً على ذلك، تقدّم جزر المحيط الهادئ مثالًا لافتًا لما وصفه معهد لوي، وهو مركز أبحاث أسترالي، في تقرير صدر في أواخر أغسطس الفائت، بأنه "اللعبة الكبرى" الجديدة بين الصين والولايات المتحدة. فقد أدى التواجد الصيني المتزايد بين الأرخبيلات والدول الجزرية المتناثرة في المنطقة — بدءًا من اتفاقية الأمن اللافتة للنظر بين بكين وجزر سليمان، وانتهاءً ببناء الصين للقصر الرئاسي الجديد في فانواتو — إلى دفع أمريكا وحلفائها الإقليميين، وخصوصًا أستراليا، إلى تعزيز تفاعلهم مع الدول التي تقع في أطراف الاهتمام الأمريكي.
إنجازات اللاعب الصيني في جزر المحيط الهادئ
كان اهتمام الصين بالدول الصغيرة في المحيط الهادئ منصبًّا في المقام الأول على تايوان، تلك الجزيرة الديمقراطية التي كان بوسعها ذات يوم أن تتباهى بعلاقاتها الدبلوماسية مع بعض هذه الدول الصغيرة. لكن القوة الناعمة لبكين عمّقت تدريجيًا ومع الزمن العزلة الدولية لتايوان، ولم يبق في معسكر هذه الجزيرة سوى بالاو وجزر مارشال وتوفالو، وهي جميعها دول جزرية صغيرة تقع في المحيط الهادئ.
زد على ذلك، فإن الوعد الذي قطعته الصين بتقديم مساعدات إنمائية لا نهاية لها يشكل حافزًا سهلاً لدول منطقة المحيط الهادئ الفقيرة غالبًا بالانحياز إلى بكين التي اتسعت مصالحها هناك، ممّا أدّى بالتالي إلى إبرام اتفاقيات أمنية وشرطية مع بعض بلدانها، بالإضافة إلى تعميق العلاقات الاقتصادية والتنموية معها.
من هنا، كتب ميهاي سورا وجيسيكا كولينز وميج كين من لوي: "إن النطاق الدبلوماسي للصين يتوسع ويستهدف البلدان والقطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية، ويعمل بلا هوادة على إغراق النخب السياسية الإقليمية بعروض من المساعدة، التي تلبي الضرورات السياسية المحلية وتزود الصين بالطرق والوصول".
ليس هذا فحسب، فقد كشف تقرير معهد لوي عن أن الصين أصبحت لاعبًا رئيسيًّا في تمويل التنمية والتواصل الدبلوماسي والبنية التحتية الحيوية مثل الموانئ والمطارات والاتصالات.
وأضاف التقرير: "من خلال العمل على المستويين الثنائي والإقليمي، تسعى الصين إلى لعب دور أكبر في القطاعات الرئيسية مثل الجيش والشرطة والاتصال الرقمي والإعلام".
وعلى النقيض من ذلك، لفت مُعدُّو التقرير إلى أن "الشركاء التقليديين لدول المنطقة، مثل أستراليا والولايات المتحدة، يشعرون بالقلق من أن ميزان القوى الإقليمي يتغير وأن نفوذهم يتضاءل".
ماذا عن الدفاع الأمريكي؟
في الواقع، دفع هذا الهجوم الصيني المتصاعد في هذه المنطقة، الولايات المتحدة وحلفائها إلى القيام بخطوات دفاعية تداركًا للمزيد من الخسائر. خلال السنوات الخمس الماضية، أقدمت أستراليا على زيادة حضورها الدبلوماسي في منطقتها، من خلال افتتاح عدد كبير من السفارات وتعزيز المساعدات التنموية.
بموازاة ذلك، انضم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى هذه الخطوات، حيث أنشأ منتدى مع قادة جزر المحيط الهادئ العام الماضي، والتزم بضخ مئات الملايين من الدولارات لها كمساعدات تنموية جديدة.
كما عزّزت الولايات المتحدة وأستراليا تعاونهما الأمني الخاص، عبر تجديد المطارات الأسترالية لاستيعاب الانتشارات العسكرية الأمريكية الجديدة، لا سيما مع وضع الاتفاقية المرتقبة AUKUS (التي من المقرر أن تسلم أسطول غواصات نووية إلى كانبيرا) موضع التنفيذ.
فتقدم أستراليا للولايات المتحدة حكومة مستقرة وودّيّة، وجيشًا صغيرًا ولكنه قادر، ومساحة شاسعة يمكن من خلالها تنظيم الجهود العسكرية أو إعادة إمدادها.
إلى جانب ذلك، عملت الولايات المتحدة على تمتين علاقاتها الدفاعية مع حلفائها في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك الفلبين واليابان، في محاولة لجم التوسع الصيني.
ومع ذلك، يبدي مُعدُّو تقرير لوي خشيتهم على الدول الجزرية في المحيط الهادئ في الوسط.
فالاهتمام والاستثمار الجديد قد لا يكون بمثابة نعمة كاملة بالنسبة لها. حيث يشيرون إلى أن "حجم الفساد في منطقة المحيط الهادئ، بما في ذلك "الاستيلاء" على الدولة من قبل النخب والمصالح الخاصة، لم يشهد أي تحسينات ملموسة على مر السنين".
عن العلاقة بين اللعبة الكبرى ومصالح الدول: أنغولا نموذجًا
عمليًا، إن "اللعبة الكبرى" في العصر الحالي، كما هي الآن، لا تتعلق بالإكراه الإمبراطوري الصريح. فقد أكد زعماء منطقة المحيط الهادئ على استقلالهم ومصلحتهم الذاتية في إبرام الصفقات مع الصين والغرب، كما فعل الساسة في أجزاء أخرى من العالم — وخاصة في أفريقيا، حيث أثار النفوذ الاقتصادي الهائل للصين أشكالًا جديدة من المنافسة.
وتبعًا لذلك، كشف تقرير حديث نشرته صحيفة فايننشال تايمز بالتفصيل كيف تساعد الولايات المتحدة في إحياء ممر لوبيتو، وهو خط سكة حديد عمره قرن من الزمان يربط جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالمعادن بميناء رئيسي في أنغولا. ربما يكون المشروع، الذي استقطب تمويلًا من الشركات الأوروبية الكبرى أيضًا، أكبر تحدٍّ أمريكي لمبادرة الحزام والطريق المترامية الأطراف في الصين، والتي شهدت قيام الشركات الحكومية الصينية بإنشاء بنية تحتية رئيسية في جميع أنحاء العالم - وهذه العملية (لبكين) تثقل كاهل تلك البلدان بالديون العامة المعوقة في بعض الأحيان.
وفي حين تأمل واشنطن أن تشكل هذه الخطوة الأمريكية سابقة مختلفة، قال تولينابو موشينجي، سفير الولايات المتحدة في أنغولا، لصحيفة فايننشال تايمز: "هذا مشروع سيعرض النموذج الأمريكي للتنمية" وأضاف: "نحن بحاجة إلى حلفاء يتفقون مع طريقتنا في أداء الأعمال".
في المحصّلة، وبالرغم من هذا الاحتفاء الأمريكي بإنجازهم الأفريقي هذا، غير أن المسؤولين الأنغوليين غير مهتمين بالانحياز إلى أحد الجانبين. ولهذا قال ريكاردو سواريس دي أوليفيرا، أستاذ السياسة الأفريقية بجامعة أكسفورد، لصحيفة بريطانية: "إن أنغولا تفعل الشيء الذكي الذي تفعله العديد من الدول الأفريقية الآن: فهي تريد أن تكون صديقة للجميع، ولكنها لا تريد أن تكون مملوكة لأي شخص". وأضاف: "لا يريد الرئيس جواو لورينسو أن تقع أنغولا في فخ حرب باردة جديدة".