طارق ترشيشي - خاص الأفضل نيوز
في انتظار صدور ردّ رسمي عن المملكة العربية السعودية على الدعوة إلى الحوار التي وجّهها إليها الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، لا يمكن الأخذ بكل التسريبات التي اعتبرها البعض أنّها تشكّل ردًّا سعوديًّا، من مثل أنّ المملكة تتعاطى مع لبنان من دولة إلى دولة ولا شأن لها أن تتعاطى مع أحزاب في هذه الدولة التي تريدها سيّدة وقويّة.
ومن المرجّح أن يتبلور ردّ الرياض على هذه المبادرة "الحزبلاهيّة" في ضوء زيارة الموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان الحالية للبنان، وتحديدًا بعد لقائه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري أحد ركنَي "الثنائي الشيعي" إلى جانب حزب الله. وهذا الردّ سيحصل خلافًا لتوقّعات البعض بعدم صدوره، لأنّ المملكة لا بدّ لها أن تتخذ موقفًا، سواء كان قبولًا أو رفضًا، ولكنّ الرفض مستبعد في أيّ حال، لأنّ هذا الحوار إذا حصل سيكون لبري دور أساسي فيه. فيكون في البداية حوارًا غير مباشر بين بري والجانب السعودي الذي يكنّ له التقدير، وإذا تطوّر يتحوّل مباشرًا وينتهي باتفاق ومصالحة تبعًا لما يرتئيه طرفاه.
علاقة معقدة
كانت العلاقة بين السعودية وحزب الله قد اتّسمت لسنين طويلة بالتعقيد والتوتر الدائمين في معظم المراحل، على الرغم من بعض الانفراجات المحدودة، حيث مثّلت الانقسامات الإقليمية والنزاعات بالوكالة أحد أبرز معالم هذه العلاقة التي ظلّت تضبط على إيقاع ما يحدث بين طهران والرياض، التي غالبًا ما نظرت إلى حزب الله على أنّه "أداة إيرانية" للسيطرة على لبنان وسوريا واليمن والبحرين.
وقد مرّت العلاقة بين الجانبين بفترات عداء صعبة، خصوصًا منذ العام 2002 عندما رفض الحزب المبادرة السعودية للسلام التي أقرّتها القمّة العربية في بيروت في ذلك العام، حيث أكّد أمينه العام السابق السيد حسن نصرالله أنّ "إسرائيل لا تملك أيّ شرعية ولا يستطيع أي ملك أو أمير أو رئيس أن يتخلّى عن ذرّة رمل واحدة من أرض فلسطين للصهاينة". وفي العام 2006 حملت الرياض وبشكل ضمني حزب الله مسؤولية العدوان الإسرائيلي على لبنان، واصفةً عملياته بـ"المغامرة". وأصدر الشيخ السعودي عبد الله بن جبرين فتوى تحرّم نصرة حزب الله وتصفه بـ"الحزب الرافضي" الذي يضمر العداء لأهل السنّة والجماعة.
وفي 4 كانون الثاني 2007، وفي أوّل اتصال من نوعه بين الجانبين، زار قاسم عندما كان نائبًا للأمين العام لحزب الله السعودية يرافقه أحد مسؤولي الحزب محمد فنيش، ودامت الزيارة ثلاثة أيام التقى خلالها محادثات مع الملك عبد الله بن عبد العزيز ركّزت على إنهاء التوتر بين الطرفين. وبين العامين 2013 و2015، أيّام التصعيد في سوريا واليمن، اتّهم مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حزب الله بـ"العدوان في سوريا"، ووصفه بأنّه "حزب عميل". وفرضت الرياض عقوبات على قياديين في الحزب بتهمة دعم نظام الأسد في سوريا وإرسال مساعدات للحوثيين في اليمن. وفي العام 2016 أقرّ مجلس الوزراء السعودي قرار دول مجلس التعاون الخليجي باعتبار "ميليشيات حزب الله بقادتها وفصائلها والتنظيمات التابعة لها منظمة إرهابية".
وعام 2017 اتّهم حزب الله السعودية بأنّها وراء استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري من الرياض، ووصف طريقة معاملته بأنّها "مهينة". فيما اتّهم وزير الخارجية السعودي عادل الجبير يومذاك حزب الله بإطلاق صاروخ باليستي في اتجاه الرياض، واصفًا ذلك بـ"العمل الحربي ضدّ بلاده". وفي العام 2021 تدهورت العلاقات حيث طردت السعودية السفير اللبناني واستدعت مبعوثها من لبنان، وفرضت حظرًا على الواردات اللبنانية، مؤكّدة أنّ حزب الله "يسيطر على القرار السياسي في بيروت".
وفي ضوء ذلك يمكن القول إنّ العلاقة بين السعودية وحزب الله مرّت بمنعطفات تاريخية حادة، من المواجهة المباشرة إلى محاولات الانفراج المحدودة، وقد مثّلت زيارة قاسم للرياض عام 2007 أحد أبرز محطّات الانفراج، بينما مثّل تصنيف السعودية للحزب "منظمة إرهابية" في 2016 ذروة التصعيد. ولذلك تأتي دعوة قاسم الأخيرة إلى الحوار و"فتح صفحة جديدة" مع الرياض في سياق تحوّلات إقليمية كبرى قد تفتح بابًا لإعادة تعريف هذه العلاقة المعقّدة، على الرغم من العقبات الجوهرية التي تظلّ قائمة، خصوصًا في ما يتعلّق بسلاح الحزب ودوره الإقليمي.
وفي أيّ حال، يرى البعض أنّ الاتفاق الإيراني ـ السعودي المعقود في بكين في آذار 2023 والذي تدعمه الصين وروسيا قد يمنح الرياض هامشًا كبيرًا للمناورة في سياستها الخارجية بما يقلّل الاعتماد على واشنطن ويتيح حوارًا غير مباشر مع حزب الله، خصوصًا وأنّ الهجوم الإسرائيلي على قطر أصاب دول مجلس التعاون الخليجي بصدمة جعلها تدرك أنّ الضمانات الأميركية غير كافية، وأنّ تهديد إسرائيل لا يستثني أحدًا. وهذا ما قد يدفع الرياض إلى استكشاف تحالفات بديلة، حتى لو كانت غير تقليدية.
إلا أنّ البعض يعتقد أنّ مصلحة السعودية في التقارب مع حزب الله أصبحت أكثر إلحاحًا في ظلّ المشروع التوسّعي الإسرائيلي، لكنّها ستظلّ مقيّدة بالشروط الأساسية للرياض، خصوصًا في ما يتعلّق بسيادة لبنان ونزع سلاح الحزب. وثمّة من يقول إنّ العلاقة الوثيقة بين واشنطن والرياض في المجالات العسكرية والأمنية تجعل السماح الأميركي بتقارب سعودي مع حزب الله بلا شروط مستبعدًا، خصوصًا وأنّ واشنطن تعتبره "منظمة إرهابية" وتعارض أيّ شرعنة له. ولكن مع ذلك، فإنّ المصالح الأمنية السعودية المتغيّرة، خصوصًا بعد تهديدات نتنياهو التوسّعية، قد تدفع الرياض إلى إعادة تقييم سياستها ضمن حدود لا تتعارض مع تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن.
ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ العلاقة الأميركية ـ السعودية تبقى العامل الحاسم في تحديد مدى أي انفتاح سعودي على حزب الله، على الرغم من أنّ المصالح الأمنية السعودية قد تدفع الرياض إلى بعض المرونة في ظلّ التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة. وكذلك هناك من يقول إنّ أي تقارب بين الرياض وحزب الله إذا حصل فسيكون محدودًا ومشروطًا، وسيخضع لموافقة أميركية ضمنية على الأقل، خصوصًا وأنّ البعض يعتبر أنّ دعوة الحزب إلى الحوار مع السعودية قد تكون جزءًا من إعادة تموضع استراتيجي يريده بعد الخسائر الكبيرة التي تعرّض لها.
مناورة سياسية
على المستوى الداخلي، تطرح دعوة قاسم إلى الحوار مع السعودية تحدّيًا معقّدًا أمام القوى السياسية الحليفة للرياض، خصوصًا في ضوء الخصومة السياسية التاريخية مع الحزب والانقسامات الداخلية العميقة. فبعض هذه القوى وصف المبادرة بأنّها "مناورة سياسية" يهدف الحزب منها إلى خفض الضغط الإقليمي والدولي عليه.
وغالب الظن أنّ هذه القوى الحليفة للسعودية ستتعاطى مع مبادرة حزب الله بحذر شديد، وسترفض أي نتائج إيجابية إذا لم تتضمّن خطوات ملموسة يتّخذها الحزب لتسليم سلاحه والانخراط الكامل في مؤسسات الدولة. ولكن الضغوط الإقليمية المتغيّرة، في ضوء التهديد الإسرائيلي المشترك، قد تدفع بعض هذه القوى إلى قبول حوار محدود كشرط ضروري لاستقرار لبنان. إلا أنّ النجاح يبقى مرهونًا بمدى مرونة الحزب في الاستجابة للشروط السعودية، واستعداد الرياض لمنح حلفائها في لبنان هامشًا للمناورة السياسية.
وفي ضوء كل هذه المعطيات يمكن القول إنّ مستقبل العلاقة بين السعودية وحزب الله مرهون بشكل أساسي بقرار السلاح ومدى استجابة الحزب للضغوط الدولية والداخلية لتسليمه للدولة اللبنانية. إذ في الوقت الذي تُظهر مبادرته الحوارية مرونة سياسية غير معتادة، فإنّ الموقف السعودي الثابت يشكّل عقبة كبيرة أمام أيّ تطوّر سريع. ولكن العوامل الإقليمية، ولا سيما منها التهديد الإسرائيلي المتمثّل بمشروع إسرائيل الكبرى والهجوم على قطر، قد تفتح نوافذ فرص صغيرة لتقارب محدود، لكنّها لن تغيّر المعادلة إذا لم يتخذ حزب الله خطوات عملية في ما يتعلّق بسلاحه ودوره في لبنان والمنطقة.